السعادة.. في عالم متغير.

تتعدد تعريفات السعادة وتتفاوت تفسيراتها بين الثقافات والأديان والفلسفات. حيث تناول الفلاسفة مفهوم السعادة، من زوايا متعددة، فقد رأى “أرسطو” أن السعادة ليست مجرد متعة حسية، بل هي غاية إنسانية تتحقق من خلال ممارسة الفضائل وتنمية العقل والروح. واعتبر أن الحياة الطيبة تعتمد على تحقيق التوازن والاعتدال، مما يؤدي إلى حياة متكاملة وممتازة. بينما ركزت “الفلسفة الرواقية” على أهمية السيطرة على العواطف والتأقلم مع الظروف الصعبة، معتبرة أن السعادة تنبع من الداخل، ومن القدرة على تقبل الأحداث دون الانجرار وراء المتغيرات الخارجية. أما “الفلسفة الأبيقورية “ فقد شددت على تحقيق اللذات البسيطة والمتوازنة والابتعاد عن الألم والمعاناة، مع تأكيد أهمية الاعتدال وعدم الإفراط في المطالب الحسية. تلك الرؤى الفلسفية تؤكد أن السعادة ليست حالة مطلقة، بل هي نتيجة للتفاعل بين العقل والجسد والروح في سبيل تحقيق التوازن. أما في الديانات فإن “ الدين الإسلامي” يشدد على حتمية الرضا بقضاء الله وقدره، ويحث على الأعمال الصالحة لتحقيق السعادة في الدنيا، بينما نجد أن “ الديانة المسيحية” ترى أن السعادة تكون في العلاقة مع الله والخلاص الروحي، في حين تعتبر “الديانة اليهودية” السعادة قيمة أساسية ومكونًا مهمَا في حياة الفرد والمجتمع على حدٍ سواء. بينما تؤكد “الديانة البوذية” ضرورة التحرر من الرغبات الدنيوية للوصول إلى حالة من السكينة “النيرفانا”. وهنا يمكن القول إن السعادة ليست مرحلةً عابرة أو شعورًا لحظيًا، بل هي حالة شاملة ترتبط بتحقيق الذات والعيش بتناغم مع القيم والمبادئ الشخصية. وتنبع من التوازن بين الجوانب الروحية، والعاطفية، والاجتماعية والذهنية. وفي هذا السياق، تُظهر التجارب الحياتية أن السعادة تختلف من شخص لآخر، فمنها ما ينبع من الداخل ويظل ثابتًا رغم تقلبات الحياة، ومنها ما هو عابر يرتبط بمواقف محددة أو تحقيق أهداف معينة. لذا فإن السعادة، كما يُنْظَر إليها من منظور شامل، تعتمد على عدة عوامل داخلية وخارجية. فعلى الصعيد الداخلي، تُعَد الثقة بالنفس والشعور بالتفاؤل والطمأنينة من أهم ركائزها، بينما يعتمد البعد الخارجي على جودة العلاقات الاجتماعية والدعم المجتمعي ونقاء البيئة المحيطة. وهنا يظهر الدور الكبير الذي يلعبه التعليم والتوعية في تنمية هذه العوامل، خاصة مع المبادرات العالمية مثل “مشروع المدارس السعيدة” الذي أطلقته “منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة - يونسكو” لتقديم نهج بديل لتحسين تجربة التعلم وتحقيق الرفاهية النفسية للطلاب. تختلف حالات السعادة من حيث العمق والاستمرارية، فالسعادة الداخلية العميقة هي حالة مستقرة لا تتأثر بشكل كبير بتقلبات الحياة الخارجية، وهي ناتجة عن اكتساب الإنسان قوة داخلية وثقة بالنفس. بينما ترتبط السعادة العابرة بمواقف أو إنجازات معينة وتكون غالبًا نتيجة تحقيق أهداف محددة أو استمتاع بلحظات سعيدة مؤقتة. تلك الدرجات تعكس طبيعة التجربة الإنسانية التي تتأرجح بين فترات من الرضا واللحظات العابرة من الفرح، مما يدفع البعض إلى البحث عن سبل تعميق الشعور بالسعادة وتحقيقها بصورة مستدامة. أن السعادة والحزن وجهان لحالة شعورية واحدة، حيث يمثلان تجارب عاطفية متناقضة تتداخلان في حياة الإنسان فالسعادة تعكس حالة من الرضا والانسجام الداخلي، وتولد شعورًا بالسكينة والتفاؤل، غالبًا ما تنجم عن تحقيق الذات والاتصال الإيجابي مع الآخرين، مما يجعل الإنسان يشعر بأنه يعيش حياة ذات معنى. بينما الحزن يأتي انعكاسًا طبيعيًا لتجارب الفَقْد أو الفراق، وقد يكون في كثير من الأحيان مؤلمًا، لكنه يحمل بين طياته دروسًا قيّمة تساعد الفرد على النمو والتعلم. إذ إن القدرة على مواجهة الحزن والتعامل معه تُعزز من تقدير اللحظات السعيدة وتجعل التجربة الإنسانية أكثر عمقًا، ويعتبر التعايش مع الحزن جزءًا لا يتجزأ من رحلة البحث عن السعادة، ففي بعض الأحيان، يعزز الحزن الشعور بالتواضع والتأمل، مما يدفع الإنسان إلى تقدير السعادة بشكل أعمق وتبني أساليب حياة أكثر توازنًا. وهذا التفاعل يشير إلى أن السعادة ليست غياب الحزن، بل هي القدرة على التعايش مع تقلبات المشاعر والاستفادة من كل تجربة كجزء من عملية النمو الشخصي. في خضم التقلبات والتحديات التي يواجهها العالم اليوم، تظل السعادة هدفًا يتطلع إليه الجميع، عبر كافة الأبعاد الفلسفية والدينية والاجتماعية. إذ إن السعادة ليست مجرد شعور لحظي، بل هي رحلة مستمرة نحو تحقيق الذات والعيش بتناغم مع القيم الإنسانية النبيلة. ومن هنا، تأتي أهمية تبني استراتيجيات شخصية ومجتمعية تُركز على التغلب على الموانع النفسية والاجتماعية والمادية، وذلك بهدف بناء مستقبل يسوده الاستقرار والرفاهية. وهنا حري بنا أن نتوقف لحظة لنفكر في كيفية إعادة صياغة مفهومنا للسعادة، وأن نستمد من تراثنا الثقافي والفلسفي والديني ما يعزز من قدرتنا على مواجهة التحديات بكافة أشكالها، وتحقيق الرضا الداخلي. فالسبيل إلى السعادة يبدأ من داخلنا، ومن خلال تنمية العلاقات الإنسانية القوية، وتبني سياسات تنموية تُعْلي من قيمة الرفاهية، وهنالك سوف نتمكن من بناء مجتمع يحقق للجميع الحياة الكريمة والسعادة المستدامة. في العصر الحديث لم تكن السعادة مجرد مفهوم نظري، بل تحولت إلى هدف عملي تسعى إليه العديد من المبادرات العالمية. ففي عام 2012م، أعلنت “الجمعية العامة للأمم المتحدة” يوم 20 من شهر مارس من كل عام، يومًا دوليًا للسعادة، وهو اعتراف بأهمية تحقيق الرفاهية لدى كل فرد في المجتمع. وفي ظل هذا القرار، تعمل الحكومات والمنظمات الدولية على تبني سياسات تُعزز من حقوق الإنسان وتدمج الأبعاد البيئية والاجتماعية في استراتيجيات التنمية. فمن أحد الأمثلة البارزة في هذا السياق هو مشروع المدارس السعيدة الذي أطلقته “منظمة اليونسكو” في “بانكوك – تايلاند” عام 2014. حيث يهدف المشروع إلى تحسين خبرات التعلم من خلال خلق بيئة مدرسية تركز على الرفاهية والشعور بالانتماء، مما يسهم في تنمية حب التعلم لدى الطلاب مدى الحياة. وفي خطوة تسعى لنشر ثقافة السعادة والرفاهية بين الأجيال الناشئة، وفي عام 2022م. تم تطوير دليل ومجموعة أدوات لهذا المشروع، مما أدى إلى انتقاله إلى نطاق عالمي. إن “اليوم العالمي للسعادة” ليس مجرد مناسبة احتفالية فحسب، بل هو دعوة للتغيير والعمل نحو عالم أكثر إشراقًا وإنسانية، حيث يكون الرضا والطمأنينة ركيزة أساسية للحياة الكريمة. في النهاية، تبقى السعادة رحلة مشتركة بين الفرد والمجتمع، رحلة تستحق منا أن نثابر عليها ونكرس جهودنا لتحقيقها في كل زاوية من زوايا الحياة.