أبو هـتــان

دَخَلَ أبو هتان طوارئ المستشفى صباح أوَّل يوم من شهر رمضان المبارك يشكو مِن آلام شديدة جداً في فَخِذه الأيمن لم يَعرفها طِوال مُعاناته مع المرض التي استمرت حوالي 35 سنة. وعندما نُقِلَ إلى غُرفةٍ بالمستشفى ليتلقى العلاج الوحيد لحالته المُزمِنَة والمُتَمَثِّل بأقوى أدوية تخفيف الألم والمُهَدّئات، قال لأُم هتان: لا اعتقد أنَّني سأُكمِل معكم عشرة أيام من رمضان. قصة مُعاناة أبو هتان مع المرض مثال قوي لشابٍ آمن بالله القائل “لا تَيأسُـوا مِنْ رَوحِ الله”. حيث بدأت قصته مع المرض قبل خمسة وثلاثين سنة عندما شَـعَرَ بآلامٍ في صدره وضَعف في صحته. وحيث كان يعمل حينها في إدارةٍ بالمستشفى تتعامل مع أطباء وموظفي المستشفى بصفةٍ يوميه، راجعه بمكتبه استشاري جراحة القلب الذي لاحظ عليه التَّعَب. فقال دعني أكشف عليك، حيث تَحَسَّسَ منطقة الرقبة وما حَولَها، فلاحظ وجود تَوَرُّم غير ظاهِر قُرب الرقبة، فأخذه إلى عيادته وقام بأخذ عينة مِن ذلك التوَرُّم وأرسلها إلى المختبر الذي أكَّدَ إصابته بسرطان الغدد الليمفاوية (الليمفوما). دَخَل أبو هتان عيادة الأورام بالمستشفى وأخذ جُرعات كيماوي، ثم عُمِلَ له زراعة نخاع مِن نَفسِـه، ولكن فَشَلَـت الزراعة وتَطَوَّرَ المرض إلى ما يُسميه أطباء الأورام “المرحلة الرابعة Stage 4”، وهي مرحلة خطرة قد تكون نهاية المريض. تَفَضَّل عليه ــ بعد الله ــ النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران آنذاك صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، رحمه الله، بإرساله للعلاج في مستشفى إم دي أندرسون في مدينة هيوستن بأمريكا. تلقى أبو هتان في مستشفى إم دي أندرسون زراعة نخاع ثانية من شقيقه خالد. “فسُبحانَ الله الذي بيَدِهِ مَلَكوتُ كُلّ شيءٍ”، نَجَحَت زراعة النخاع واستمتع أبو هتان بصحة وعافية لحوالي 29 سنة، كان خلالها الإبن والزوج والأب والصديق لكُل مَن حَولِهِ. وبعد عِدَّة سنوات من عودته من أمريكا، وفي إحدى الفعاليات الطبية بمدينة جَدَّه قابلَ أبو هتان طبيبه الأمريكي الذي عَرَّفَهُ بنفسِه، حيث لم يتَذَكَّره أبو هتان. دعى الطبيب أبو هتان إلى المِنَصَّة التي كان يُقَدِّم منها مُحاضرةٍ عن أمراض الأورام، وقال للحضور: إن أردتُم التَعَرُّف على مريض عادَ مِن الموت بسبب إصراره على الحياة، فها هو أمامكم “أبو هتان”. خلال تلك السنوات التسع والعشرين كان أبو هتان هوَ ورفيقة دربه “أُم هتان” يُرافقون إبنهم هتان مُدَّة عَشر سنوات، حيث كان هتان موهوباً في السباحة مُنذُ أنْ كان في الثامنةِ مِن عُمرِه، وحتى تَخَرُّجه من الثانوية. حيث كان هتان يفوز كل عام ببطولة المملكة في السباحة للصغار في كُل تصنيف للسباحة بناءً على المرحلة العُمريَّة للسبَّاحين، وشارك في سباقات السباحة الخليجية والعربية. وتكتَظُّ غرفة هتان في منزلهم بعشرات الميداليات من سباقات السباحة التي شارَكَ فيها. وفي كل هذه المشاركات كان أبو هتان وأُم هتان وشقيقته هتون يرافقونه على حسابهم الخاص. أما هتون فكانت “المَلاك” بالنسبة لأبي هتان لا يُنازعها أحد في ضخامة مكانتها في قلب أبو هتان، حيث كانت “السكرتيرة الطبية” لأبي هتان، تتراسل مع المراكز الطبية الأمريكية بشأن حالة أبو هتان. أما أُم هتان فكانت “الجندي غير المجهول”، حيث كانت الزوجَة والشريك لأبي هتان والأُم والصديقة لهتان وهتون “ورئيس مجلس الإدارة والعضو المُنتدب الرئيس التنفيذي” في منزل العائلة الصغيرة !! حَصلَ هتان وشقيقته على بعثة للدراسة في أمريكا، فقام أبو هتان بالتقاعد المُبكِّر مِن وظيفته بالمستشفى ليرافقهما هوَ وأُم هتان. حيث كان منزل أبو هتان “بيتاً للطلبة السعوديين” الذين يدرسون في مدينة بورتلاند بولاية أوريجون الأمريكية طِوال سنوات دراسة هتان وهتون في جامعة بورتلاند سـتيت. عاد الجميع مِن أمريكا صيف 2016م سالمين غانمين، وأبو هتان يَرفُل بثياب الصحة والعافية والسعادة. كان أبو هتان ماهراً في الطبخ، خاصةً “المندي”. حيث قام بصناعة “برميل” مَندي من حديد كَسَاهُ مِن الداخل بالفخَّار، يَنقُله معه على سيارته “العراوي” في رحلاته البريَّة مع مُحبيه أو إلى منازل أفراد عائلته وأحبابه ليطبخ لهم “المندي” الذي لا يستطيع الشخص أنْ يتَوَقَّف عن الأكل منها إلا عندما يتم تفريغ “الصحن” الذي أمامه. كذلك عُرِفَ عن “أبو هتان” مَرَحِه ولُطفه مع الصغير والكبير، وكذلك قُدرَتِه على إدخال البهجة والسرور إلى المجلس الذي يَدخُله. أما رسائله التي يُرسلها عبر تطبيق “واتسب” إلى أحبابه فتلك قِصَّة أُخرى، مِن حيث “خِفَّة دَمّ” تلك الرسائل التي تَتَعَجَّب مِن أين يحصل عليها. ولكن الأهم مِن كُل ذلك “المقالب” التي لا تُعَدّ ولا تُحصى التي عَمَلَها لأُم هتان وهتان وهتون طوال حياته معهم !! أم أهمّ خَصال أبو هتان في محيط عائلته الصغيرة ــ كما تقول أُم هتان ــ فكانت عظيم شُكره وامتنانه لأُم هتان وهتان وهتون على كل شيء يقدمونه تجاهه صغيراً كان هذا الشيء أم كبيراً. أمَّا علاقاته مع زملائه في العمل فتحتاج إلى العديد من المقالات لوصفها كما تَحَدَّثَ بها زملائه الذين جاءوا إلى مراسم العزاء، حيث أجمعوا على تَفَرُّد شخصيته في تواضُعه ولُطفِه وتفانيه في العمل وخِدمَته لكُلّ مَن يتعامَل معهُ صغيراً كان أم كبيراً. فجأةً، في أغسطس 2019م، شَـعَرَ أبو هتان بآلامٍ في فَخذِه الأيمن، حيث أوضَحت الأشعة وجود وَرَم داخل الفخذ، حيث تَمَّ اسـتئصال الورم مباشرةً في عملية جراحية كبيرة في مستشفى الملك فيصل التخصصي. ولكن بعد حوالي السَّنَة عاد الورم في فخذه الأيمن مرةً أخرى بحجمٍ أكبر مِن ذي قَبل وبشراسةٍ أشَدّ، حيث تَمَّ استئصاله في عملية جراحية كبيرة استلزمت فتح الفخذ والورك بطول 70 سنتميتر، ثُمَّ بدأ بأخذ جُرعات العلاج الكيماوي. بعد عِدَّة أشهُر استسلَم الطبيب المُعالج وقال لإبي هتان أنَّ الورَم أعجَزَهُم ولم تَنفَع معه جميع أنواع الجُرعات الكيماوية. ولكن أبو هتان لم يَعرِف الاستسلام ولم ييأس أو يَقنُط يوماً مِن رَحمةِ الله. فتفَضَّلَ عليه ــ بعد الله ــ ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بإرساله مرتين إلى أمريكا لمواصلة علاجه، حيث كان يَمكُث هناك كُل مرَة عِدة أشهر. استمرت هذه المُعاناة حوالي ست سنوات، وأبو هتان لم يَيأس أو يقنُط مِن رَحمَة الله ولم يفقد الأمل في علاج مَرَضِه الذي جَعَلَه، كما يقول، خبيراً بأدوية الآلام والمُسكِّنات والمُهدئات القوية جداً، وذلك بسبب كثرَة وَصْفَها له مِن الأطباء لتخفيف آلامه المُبرِحَة التي لازَمَته طِوال هذه السنوات الست. خلال هذه السنوات الست الماضية بعد رجوع المرض له، أجرى أبو هتان عمليات جراحية عديدة في فخذه الأيمن لاسـتئصال الورَم الذي يَتكرّر في النمو بعد اسـتئصاله. أقصَر هذه العمليات الجراحية استغرق أربع ساعات، وأغلبها استغرق حوالي عشر ساعات، وآخر عملية جراحية في فخذه الأيمن استغرقت إثنتي عشرة ساعة أجراها في نهاية عام 2023م في مستشفى الملك فيصل التخصصي، حيث “تقريباً” لم يُبقِ الأطباء في الفخذ إلا العَظْم. وبعد كُلّ عملية جراحية يَخرُج أبو هتان أكثر إيماناً بالله عَزَّ وَجَلّ وأكثر رَفضاً لليأس أو القُنوط مِن رحمة الله. ولكن “قَدَّرَ الله، وما شاءَ فَعَل”. فقد تَمَكَّنَ المَرَض مِن أبي هتان، ولم تُفلِح معه جُرعات الكيماوي التي حاولَ الأطباء استخدامها لكبح جماح الوَرَم الذي يعود في الظهور، حيث اسـتشرى المرض في بقية أعضاء جسمه. عندها فقط أعلَنَ أبو هتان استسلامه وقال لأُم هتان قبل دخوله المستشفى لآخر مَرَّة: “لا أُريد أي تَدَخُّل طبي فيما لو ساءَت حالتي، سواءً بإنعاشي أو بعَمَل فتحة في القصبة الهوائية لمُسَاعَدتي في التَنَفُّس”. وهكذا كانَ لَهُ ما طَلَب. دَخَلَ أبو هتان المستشفى صباح يوم السبت، غُرَّة شهر رمضان المبارك، واعيَاً بمَن حوله لمدة أربعة أيام، ثُمَّ دَخَلَ في غيبوبة لم تستلزم ــ ولله الحمد ــ تدَخُّلاً لمُسَاعَدَتِه في التنفس. في يوم الإثنين، العاشر مِن شهر رمضان المبارك، وبعد أنْ أدَّت والدته وأُم هتان صلاة الظُهر مُحيطين به في غرفته بالمستشفى، وبعد أنْ أنهَـت أُم هتان قراءة سورة يس وهي جالسة مباشرة بجوار سريره، سَمِعَـت زَفرَةُ تَنَفُّس شَديدَةٍ مِنْ أبي هتان تَبِعَتها مُباشَرَةً رَجفَةً خفيفةً في جسمِهِ، حيثُ فاضَت رُوحَهُ إلى بارِئها بهُدُوءٍ وسَـكينَةٍ. رَحِمَ الله أبو هتان، هشام بن عبدالله العليان، إبن خالي اللواء عبدالله بن حمد العليان (رحمه الله)، وزوج شقيقتي وفاء بنت حمد القنيـبط؛ جَعَلَ الله مُعاناتِه الطويلة مع المَرَض الخبيث تَكفيراً لذُنُوبه وزيادة في أجرِه وأسكَنَهُ جَنَّة الفردوس، وألهَمَ أُم هتان وهتان وهتون ووالدته وأشقائه وشقيقاته وأحبابه الصبر والسِلوان. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.