
يولد الفن من رحم الشعور، وينبض بالحياة بين يدي مبدعيه، فهو ليس مجرد ألوان وخطوط، بل حوار صامت بين الروح واللوحة، بين الفنان والمتلقي. وحين يتجلى الإبداع، يصبح لكل تفصيلة معنى، ولكل ظلٍّ قصة. في هذا الحوار، نقترب من عوالم التشكيلية سلوى حجر، لنرصد ملامح تجربتها، ونتلمس خيوط الإلهام التي تنسج لوحاتها، حيث تمتزج الرؤية بالتقنية، ويصبح الفن وسيلة للتعبير عن الذات ورؤية العالم بعيون مختلفة. * نشأتِ في بيئة تتسم بالثراء الثقافي والتنوع الفني، كيف أثرت هذه البيئة على تشكيل ذائقتك البصرية، وما مدى حضورها في أعمالك الفنية؟ ** يقول رائد علم الاجتماع، ابن خلدون، إن «الإنسان ابن بيئته»، فسلوك الإنسان وطباعه وثقافته هي امتداد لعناصر بيئته وطريقته في التواصل والتفاعل معها فهي من تصقله وتلونه حسب جغرافيتها ومناخها، وبما أن البيئة وسيط مادي ومعنوي يحيط بالفنان ويحيا بداخله فلابد أن يؤثر به وبأفكاره وتوجهاته، لذا أحاول جاهدة أن أستحضر تلك اللحظات الهاربة من صيرورة الزمن والقبض عليها ومواءمتها بين شغفي المعرفي وبين مفاتن الجمال لولادة لوحات متجددة لا تشبه إلا ذاتي. * في ظل رحلتك الطويلة مع الفن، كيف ترين الفرق بين الفنانة سلوى حجر في بداياتها الفنية والفنانة التي حققت مكانتها اليوم؟ ** * قد أقفز عالياً وأتجاوز ذكر تلك العقبات والتحديات التي واجهتني في أغلب محطاتي الفنية، لأنتقل إلى حقل أخر يزخر بالإنجازات في ضوء التعرف إلى مدارس فنية جديدة وأفكار فلسفية تمنحني القدرة على التغير والرقي بأسلوبي إلى تصدير رسالتي الفنية بعمق وادراك أكبر في ضوء تلك المتغيرات والتيارات الفنية الحداثية، فلا أنسى ذلك الدور الفاعل للاكتساب المعرفي من خلال السفر في تبادلات ثقافية وفنية حفزتني للتفاعل مع ثقافات وفنون ومعارف جديدة تؤثر وتتلاقح مع إنتاجي الفني. * تُصنّف أعمالك ضمن الواقعية، لكنكِ تضيفين إليها أبعادًا انطباعية وتجريدية، كيف تحققين هذا التوازن؟ ** أعمالي تنتمي إلى الواقعية كمفهوم فني يعنى بنظرية المحاكاة (ما تبصره العين ونستشعره من خلال الحواس)، لذا اهتم بتصوير التفاصيل الدقيقة والحياة اليومية، لكنني أحب أن أضيف إليها لمسات انطباعية من الذات التي تتصل بذلك الموضوع لإضفاء عمقٍ أكبر على منجزي البصري، وأحاول جاهدة ـ كاشتغال مهاري وفكري ـ أن أتصل بمنجزي البصري من خلال التركيز على جوهر المشهد أو الشخصية مع السماح للعواطف والأحاسيس بأن تتدفق بحرية. * وما الذي يجذبكِ لهذا التداخل بين الأساليب الفنية؟ ** ما يجذبني لهذا التداخل هي الرغبة في تجسيد الواقع ليس كما نراه فقط بل كما نشعر به ونتفاعل معه، فالواقعية تمنح العمل مصداقية وقربًا من الجمهور، بينما الانطباعية والتجريد تفتح الباب لتأويلات متعددة وتجربة شخصية أعمق وأوسع، وكل هذا المزيج يسمح لي باستكشاف الحدود بين الحقيقة والخيال، وبين المحسوس الملموس والمخفي، وبين المتماهي والمجرد لمحاولة الوصول إلى عمل الفني أكثر ثراءً وتنوعًا. * الطبيعة تحتل مكانة بارزة في أعمالك، هل هي مصدر إلهام ثابت لكِ، أم أن مواضيع لوحاتك تتغير بتغير رؤيتك ونضج تجربتك؟ ** الطبيعة هي الموروث الهائل الرئيسي للفنان، والفنان بطبعه يترجم هذه الطبيعة بلوحاته، لأن الانسان بطبعه معياري، ولا بد أن يحكم على الأشياء من خلال اتصاله بما حوله من موجودات، لذلك يبدع الفنان من خلال ما تبصره عينه وتتصل به حواسه بتلك الطبيعة الساحرة والتي تحتضن الموروث، ويبدع أيضا من استنطاق فيض مشاعره وترجمتها إلى أشكال وألوان، فتتآزر علاقاتي بالطبيعة مع مشاعري وادراكي لمخزوني البصري لاستنطاق ذاتي على منجزني البصري وترجمة تلك الأحاسيس إلى ولادة عناصر وأشكال جديدة، الطبيعة هي مصدر للإلهام والحب والسلام، لا نحتاج إلا لحظات التأمل، وقد مارست بمسيرتي الفنية خلال ٢٧ عامًا كثير من المدارس الفنية ولكن الطبيعة لي معها علاقة فريدة ووثيقة، فالطبيعة خلقت لي عالمًا مفعمًا بالجمال والسحر، كما أن الطبيعة تحتفظ بالعديد من الأسرار والرموز. * الحرف العربي ظهر في بعض أعمالك كعنصر فني، كيف ترين العلاقة بين الفن التشكيلي والخط العربي؟ ** الحرف المكون للخط العربي ليس مجرد شكل، بل هو بناء يتناقل ويتأرجح بين جمال المبني وجمال المعني وجمال جسد الحرف وإيقاعه النغمي، مما أدى بالفنانين لاستعارته كحرف عربي وليس كنص مقروء، أقصد كشكل بنائي متكامل النسب يضفي للعمل الفني الهوية العربية على مختلف الحقول الفنية، وقد استطعت أن أبتكر أسلوبًا فنيًا جديدًا في لوحاتي، متجاوزة النمط التقليدي لأقدم رؤية جديدة وبصمة بثوب جديد مختلف، حيث عملت على إدخال الحرف في اللوحة بأسلوب يجعل الحرف يتماهى مع عناصر اللوحة ومفرداتها وكأنها جزء رئيسي من مكوناتها الفنية الجمالية. * تحدثتِ ذات حوار عن الفن كوسيلة تعبير عن المشاعر والأفكار، فكيف تستخدمين لوحاتك كأداة للتواصل مع العالم؟ ** نحن في زمن الصورة ولسنا في زمن النص، الفن يتميز بقدرته الفريدة على تجاوز الحواجز اللغوية والثقافية من خلال استخدام الألوان والأشكال لنقل المشاعر والأفكار كوسيلة تواصل عالمية يفهمها الجميع بغض النظر عن لغتهم أو خلفيتهم الثقافية، وعندما يتأثر الفنان بما حوله من مؤثرات تحرك ريشته لرسم الأحداث، مثلما تأثرت في أحداث 11 سبتمبر وأحداث العراق وفلسطين ولبنان، فالفن رسالة لها أثر عميق للتعبير عن الأفكار والمشاعر. * في عصر التقنية والذكاء الاصطناعي، هل ترين أن الفن الرقمي يمكن أن يكون امتدادًا طبيعيًا للفن التشكيلي، أم أنه يشكل تهديدًا للإبداع اليدوي؟ ** في عصرنا هذا نشهد كل يوم جديد تطور تقني جديد ومتسارع جعل التقنية والذكاء الاصطناعي والفن الرقمي أداة جديدة بيد الفنان تُوسع آفاق الإبداع لديه وتفتح له مجالات جديدة للتعبير، والفن الرقمي لا يلغي الفن التشكيلي التقليدي بل يتكامل معه ويسهل على الفنان، حيث يستخدم التقنية كوسيلة لتعزيز أعماله منتجه الفني، الفن اليدوي يؤكد على خصوصية الاحتفاظ بقيمته الفريدة بسبب الطابع الشخصي واللمسة البشرية التي لا يمكن للتقنية تقليدها بالكامل. * من بين العديد من الجوائز والتكريمات؛ نلتِ جائزة أفضل فنان عربي في العالم عن فئة الطبيعة في لندن، كيف كان شعورك عند رفع اسم المملكة في محفل عالمي؟ ** المشاركات الخارجية هي نقلة نوعية للفنان من الساحة المحلية إلى الساحة الدولية، وهذا يعطي للفنان نوعاً من الطموح والزخم نحو دائرة الضوء والانتشار الذي يلقي الضوء على أعماله وترويجها، وبفضل من الله قد حصلت في المسابقة التي أقيمت في لندن على المركز الأول لفئة الطبيعة، ولا شك أن هذا الفوز يعني لي الكثير والكثير، ولا زلت أتذكر وضع النشيد الوطني السعودي على الشاشة الضخمة وقد أصبح يرن في أرجاء القاعة، شعور لا يوصف، فخر واعتزاز لا يمكن نسيانهما. * شاركتِ في العديد من المعارض داخل المملكة وخارجها، هل تعتقدين أن اللوحة التشكيلية بحاجة إلى تفسير مباشر من الفنان، أم أن جمالية الفن تكمن في ترك مساحة للمشاهد لتأويلها وفق مشاعره؟ ** عملية شرح اللوحة للجمهور هي تجربة ثرية ومهمة لكنها أيضًا تحمل ـ من وجهة نظري ـ تحديات خاصة، حيث أن الفن التشكيلي هو حوار متبادل بين الفنان والمتلقي من خلال الشكل واللون، وهذه العلاقة يمكن أن تكون ذات طابع شخصي، وعندما أشرح لوحتي أحاول أن أقدم خلفية عن عمق الفكرة والشعور الذي دفعني لرسم تلك الصور والأشكال داخل عملي، لكن دائمًا أحرص على ترك مساحة للمشاهد لتفسير العمل وفقًا لمشاعره وتجاربه الشخصية، فجمالية الفن تكمن في قدرته على التواصل بشكل مباشر مع المشاعر الإنسانية، وأحيانًا يكون التفسير المباشر من الفنان مفيدًا لفهم السياق أو التقنية المستخدمة لكنه ليس شرطًا أساسيًا لتقدير العمل الفني في النهاية. * ما هي المشاريع الفنية التي تعملين عليها حاليًا؟ ** أنا مسؤولة في عدة جهات؛ وكوني مديرة الإدارة العامة لنادي سعودي آرت للفنون البصرية فرع المنطقة الغربية، ونائب رئيس منارة العرب للثقافة والفنون؛ أنظم وأقيم معارض وفعاليات وحوارات فنية وورش واستقطاب الفنانين الذين يملكون المعرفة العالية والفلسفة الفنية للقيم الجمالية لتثقيف الفنانين الشباب، كما شاركت في إصدارات أدبية ضمن سلسلة الديوان الشعري المجمع لشعراء العالم والتي يصدرها أتيليه فناني العالم، وأنا الآن في صدد إنشاء معرض شخصي لي إن شاء الله.