داميان تشازل..

ورطة الإشراق المبكر .

تحمل دورات الأوسكار مفاجآت كل عام، وأعظم هذه المفاجآت ما حدث عام 2006م، عندما حصد داميان تشازل -شاب في بداية الثلاثين من عمره- جائزة الأوسكار؛ ليصبح أصغر من حصل عليها، ولم يكتفِ بذلك! بل حصد فيلمه لا لا لاند ستة جوائز من ضمن الأربعة عشر جائزة المرشح لها، ولم يكن هذا الفيلم وليد الصدفة، فمع صغر سن المخرج؛ إلا أن تجاربه الأولى قادته سريعا إلى هذه المحطة، لتتوالي سرعة المراحل بشكل خاطف، وتقوده هذه المحطة لما بعدها بطريق مختصر، وما بين هاتين المرحلتين، نحاول التطواف في تجارب هذا المخرج. شرارة التطلع إلى النجومية ولد داميان تشازل في يناير عام 1985، وكان مهتما بالموسيقى والفن في سن مبكرة، فقد كان عازف طبول محب للصورة الجميلة، وجمعه القدر بصاحبه الموسيقي جاستن هارتس الذي يقاربه في العمر، فامتزج الهوس الموسيقي والسينمائي ليخرج فيلمهما الأول وهما في المرحلة الجامعية، ابتدآ رحلتهما صديقين تجمعهما فصول الدراسة والموهبة، وخرجا بفيلم “Guy and Madeline on a Park Bench” عام 2009 ، الفيلم الذي تجد فيه ملامح تجاربهما اللاحقة في انحياز تشازل للفيلم الغنائي، وحضور الموسيقى بشكل لافت، واشتغاله على العواطف بين المتحابين لصناعة أسلوب يميزه عن غيره، وللتحضير لفيلمه الذي وضعه ضمن قائمة السينمائيين مبكرا جدًا، ففي عام 2013 أخرج فيلمه “Whiplash” في قالب قصير، وبعد عام خرج فيلما طويلا متكاملا؛ لتكون الموسيقى محرك الفيلم الذي يحكي العلاقة المعقدة بين طالب موسيقى مميز ومدربه الصارم ذي الكاريزما العسكرية، وتبدّت اللمسات المونتاجية التشازلية في القطع والتنقلات وعلاقتها الوثيقة بالتفكير الموسيقي بالقفز السلس بين النغمات، والحكاية الموسيقية في لحظات التدريب المتوترة ما بين المدرب والطالب، وتمازج العسكري بالموسيقي على صعيد تكرار المقطوعة والتوقف والإعادة، وتميز الصورة بشكل لافت. حضر تشازل عام 2015 في جوائز الأوسكار بهذا الفيلم، وحصد ثلاث منها أولها للمونتاج لتوم كروس، وثانيها للمزج الصوتي، وثالثها لأداء جي. كي. سيمونز في دور المدرب كدور مساعد في الفيلم، وقد كان أداؤه لافتا مما وضع اسم داميان ضمن خارطة المرشحين بوصفه كاتبا للفيلم، ليحضر من اقترب من الثلاثين من عمره ضمن قائمة المرشحين في وقت مبكر. الانطلاق للقمة استثمر داميان تشازل كل قدراته في فيلمه الموسيقي الذي يطمح إليه مع صاحبه الموسيقي جاستن هارتس، وقد رمى تشازل بكل أوراقه مخرجا للخروج بمشاهد حية وراقصة وخالدة في ذاكرة المشاهدين في فيلمه “La La Land”عام 2016، فوضع اسمه في ذاكرة تاريخ السينما ضمن فئة الأفلام الموسيقية، وقد كان لحضوره السابق أثرا في تمويله بميزانية تُقدّر بثلاثين مليون دولار، ليعود بإيرادات تجاوزت الخمسمية مليون دولار، لما حققه الفيلم من إنجازات منذ ترشحه في الأوسكار لأربعة عشر جائزة، وحصده لست منها! اقتسمها مع صديقه، فحاز تشازل أفضل مخرج وجاستن جائزتين لأفضل صوت وتأليف موسيقي، وأما أفضل أداء تمثيلي عن دور أول فحصدته بطلة الفيلم إيما ستون، وأفضل سينماتوجرافي للينوس ساندقرين، وأخيرا أفضل تصميم إنتاج ديفيد واسكو. لم يكن لا لا لاند فيلما عابرا، بل وضع قدمه ضمن العشرة أفلام موسيقية الأكثر مبيعا، وأقنع الجميع بموهبة تشازل، ومنحه فرصًا جديدة، ولذلك جاء فيلمه اللاحق لحادثة تستحق قدرته الإخراجية، فالجانب البصري كما السمعي عند تشازل على قدر من التميز والإبهار، وهذا الجانب يستحق السماء وأول خطوة فوق السحاب. التحليق في السماء اتجه تشازل محلقا في السماء، وبجناحين قويين: (ميزانية، وقدرة إخراجية) أما الميزانية فوصلت إلى ضعف ما قُدّر لفيلمه السابق، إذ تلامس ميزانية هذا الفيلم ستين مليون دولار، وأما القدرة الإخراجية، فهي ما يراهن عليه. رُصدت هذه الميزانية لسرد قصة حقيقية للسبق الأمريكي في الفضاء، وإخراج حكاية رائد الفضاء نيل أرمسترونج من الأدراج الأمريكية أثناء رحلته إلى القمر، وذلك لتقديمها عام 2018 بفيلم يحمل اسم الرجل الأول First Man، وكان السيناريو لجوش سينقر وجيمس هانسن، وهي تجربة جديدة لتشازل الذي يخرج ما يكتبه، فيكون وفقا لتصوره من أول حرف، وحتى آخر صورة. أبرزت مساحة الفضاء الجديدة في النص جوانب من مهارات تشازل الإخراجية، فأبدع في تصوير المشاهد الفضائية بشكل جيد، وتميز رايان جوسلينج في دور أرمسترونج، ومع هذا التحليق لم يكن النجاح على قدر الطموح، فلم ينل الفيلم سوى جائزة واحدة كانت من نصيب بأول لامبرت على تميزه في المؤثرات البصرية التي كانت الأبرز في الفيلم، وعوائد لا تصل إلى خمس ما كسبه لا لا لاند من قبل، فحلّق تشازل وحده في السماء دون أن يجني ما جناه من قبل. اختبار الأدوات شباب تشازل يدعوه إلى التجريب واختبار أداوته السينمائية، ولذلك لم يمانع أن يختبر الفضاء في فيلم الرجل الأول، وأن يدخل تجربة إخراج حلقة تلفزيونية من مسلسل The Eddy ، أو تجربة إخراج فيلم بالجوال بوضع رأسي مُستعيدًا أفلام إرشيفية ضمن ذاكرة السينما العالمية، أو دعاية قهوة من بطولة براد بيت، فكل هذه التجارب تعود لاختياره العودة إلى فيلم “Babylon” عام 2022 من كتابته، ووفق رؤيته وميوله الموسيقية والاستثمار في الأرشيف السينمائي، وبداية صناعة السينما الهوليودية في العشرينيات من القرن الماضي، وببطولة براد بيت ومارجوت روبي، ورمي كل أوراقه البصرية والسمعية، وبميزانية ضخمة تفوق ما سبق! مقدرة بمئة وعشرة ملايين دولار، وإنتاج ضخم يحلم به كل مخرج، وعناصر تمثيلية بقامة براد بيت، ووقت يمتد إلى ثلاث ساعات هي مدة الفيلم، وجرأة تتجاوز كل ما قام به تشازل من قبل، ومع كل ذلك لم يحقق الفيلم النتائج المرجوة في شباك التذاكر، فكان الرهان على المهرجانات، ويا للخيبة! لم يترشح الفيلم في الأوسكار وقتها إلا لثلاث جوائز، لم يتمكن من حصد أحدها! الانطفاء أم الاشتعال من جديد؟ لا يضمن حجر الزهر العدد ستة كل مرة، والخشية تكرار عدم الوصول إلى هذا الرقم مرة ثانية، وعناد الحجر برقم واحد كل رمية، وكسب الآخرين لأرقام أعلى، فبعد إصدار Mufasa: The Lion King عام 2024؛ دخل سريعا إلى قائمة العشرة أفلام موسيقية مبيعًا، وأخرج لا لا لاند من القائمة! الخشية من ذاكرة السينما التي لا تُبقي من لم يكرر نجاحًا، أو من جاء بعده بفيلم يُنسي ما قبله، والرهان الأعلى بدخول أفلام جديدة مبهرة كل عام ضمن قائمة العشرة والمئة، طاردة أفلام كانت ملئ السمع والبصر وقتها! يظل العنيد داميان تشازل يصارع للوصول إلى ضربة تُذكِّر بما أنجز من قبل، ويُعدُّ حاليا لخوض تجربة جديدة بفيلم سيرة ذاتية عن إيفل كنيفيل Evel Knievel مؤدي المشاهد الخطرة، وسيقوم بتأدية الدور الكبير ليوناردو دي كبيريو، وبعوامل ناجحة مختبرة من قبل بسيناريو من كتابة تيرينس وينتر من رافق دي كبيريو في فيلم ذئب وول ستريت ، فهل سيكون هذا الفيلم شرارة الاشتعال الجديدة لتشازل، وقائدته للأضواء من جديد؟ أم هو تكرار لخيبة أول رجل في الفضاء؟ هذا ما ستنبي به الأيام القادمة.