المتثاقفون

يُقَالُ: “الشَّيطان يَكْمُنُ في التَّفاصيل”، أي: في أدقِّ خصائص الشَّيء، وأرى أنّه يكمن أيضًا في عموميَّات الأشياء وكُلّيَّاتها التي يصعب استكناهُهَا ووصف من تلبَّس بشيءٍ منها بها. ومنها: مصطلح (الثَّقافة) من ناحية أنَّها معرفةٌ أفقيَّةٌ عامَّةٌ، أو بعبارةٍ أخرى “معرفة شيءٍ عن كلِّ شيءٍ”؛ وهذا قد يستهوي رؤوسًا حفظت جُدَيْوِلًا هنا وجُدَيْوِلًا هناك فظنّت -باطلًا- أنّها قواميسُ محيطةٌ وشموسٌ منيرةٌ. وغالبًا هذه الرُّؤوس المربَّعة لا تَتَعالَم وتَتَثاقَف فحسب، بل هي تقول (بِعِنْدِها) في كلِّ علمٍ مع أنّ الرّأي يستلزم التَّخصُّص، وتَرجُم بأظَانِينِها اليَقِينِيَّات؛ مع أنّ اليقين لا يزول بالشَّكّ. ثمّ هي تُسْقِط قبائح جهلها على أُمَّتِها مُثَلِّثَةً رؤوسَها عليها مُنَضْنِضَةً ألسنتها في تجهيلها وازدرائها، نافيةً كُلَّها (أي: الأمَّة) لتُثبِت جُزَيئات جهلها التي لا تتجزَّأ. وهم بهذا يفعلون في (معنويّات) الأمَّة دينًا وأخلاقًا وعِلْمًا وثقافةً مالم يفعله هولاكو في حضارتها. ويكاد الجهل الفاضح والنّقْد الهدَّام ينافس سمتهم الأولى، وهي سمةٌ تتعلّق بصوَرهم التي يظهرون فيها منكِّسين روسهم بزاويةٍ عكسيَّةٍ؛ ولا أدري ما سرّ هذا؟ إنّ هؤلاء لا يمثِّلُون المثقَّف الحقّ الذي عرف ذاته في دينه ولغته ثمّ عرف منهما كلَّ شيءٍ. المثقَّف الوطنيّ العربيّ المسلم الذي تزيده الثقافة استمساكًا بالجذور؛ إذ هذا هو أصلها وشرطها عند أولي الألباب؛ يقول المهاتما غاندي : “يجب أن أفتح نوافذ بيتي حتى تهبّ عليه رياح جميع الثقافات، بشرط ألا تقتلعني من جذوري”.