في الألفة.

يعجبني الأقدمين عندما يكتبون عن موضوع ما، فيكتبون “باب ما جاء في كذا وكذا” أو يأتي العنوان مختصرا فيكتبون “في كذا وكذا”. يشعرك العنوان كما يكتبه السابقون أنهم متواضعون جدا، فهم لم يحيطوا علما بما يكتبون عنه، بل يكتبون ما عرفوه وما وعوه وفهموه.  وأنا اليوم أقلب الأفكار في دماغي لأكتب عن موضوع ما ولا أجدني قد أحطت به أو أجدت الحديث عنه والإلمام به. لذلك قررت أن اكتب عنوان المقال كما كتب السابقون ليعذرني القراء الكرام.  الألفة هي علاقة معقدة بين التعود على شيء مع التعلق به مع بقاء كل هذا خافيا في العقل الباطن، لا تظهر الألفة على السطح إلا إذا تغير أحد مكوناتها. يندهش الإنسان من رؤية شيء جديد فإذا اعتاد على رؤيته زالت دهشته، وإذا داوم على رؤيته ألفه. تفسد الألفة الجمال، من يعتد على منظر جميل يمر به عند غدوه ورواحه يألفه، وإذا ألفه ذهب كل جمال المنظر.  الناجح يألف عادات النجاح فلا يأبه بالفشل والسقوط، ولا يشكل له الطريق نحو هدفه تعبا أو مشقة، بل هو أسهل عليه من شربة ما، كأنّه يقود سيارته من منزله إلى عمله. كتب علي الوردي في كتابه “خوارق اللاشعور وأسرار الشخصية الناجحة” عن الخطأ في التربية عندما كانوا يلقنوننا في الصغر “من جد وجد ومن زرع حصد” “ومن سهر الليالي نال المعالي”. فيذكر أن الطالب الناجح المتفوق سوف يسلك سلوك النجاح وينجح من خلال لا وعيه وعقله الباطن. أما الطالب البليد فسوف يمضي ليله ساهرا يذاكر وعند إعلان النتائج تكون نتيجته متواضعة. ألم يعمل هذا الطالب المسكين بوصية الأولين في أن من جد وجد ومن سهر الليالي نال المعالي؟ لقد سهر وتعب ولكن النجاح له سلوك ويجب على الإنسان أن يألفه ويصبح في عقله الباطن. لذلك يتعامل العقل الباطن مع المذاكرة والاجتهاد كما يتعامل مع أي عمل اعتاد المرء القيام به. أي يعمل يقوم به عقلك الباطن ينجزه بأقل مجهود.  ألفة النجاح تلغي ألم الخسارة والتعثر وتجعله جزءا من النجاح، لذلك لا يحبط الناجح من عثراته وفشله، بل يمضي كأن شيئا لم يحصل.  الموهبة ألفة سريعة، يألف الموهوب ويتقن ما يعمله بسرعة. لاعب الكرة الذي يتدرب قبل المباراة يصنع ألفة مع الكرة من خلال التدريب والتمرين على أقماع وحواجز بلاستيكية، تجعله يجيد لعب الكرة في كل الظروف الصعبة أثناء المباراة الحقيقة. هذي هي فائدة التدريب والتمرين، صناعة ألفة نستطيع من خلالها التعامل من خلال اللاوعي.   للألفة جانب حزين جدا، إذا افتقد الإنسان ما ألفه فإنه يشعر بالحزن والألم. جاء ثلاثة رجال برجل مريض إلى المستشفى، قالوا: “رجل مسكين يعمل على باب الله حمال في السوق منذ أكثر من ثلاثين سنة، نريد كسب الثواب والاجر فيه”. لم أشكك في نيتهم الطيبة. بل ذهب عقلي بي مذهبا آخر، لقد ألفوا وجوده في السوق، وخصوصا أنهم في بلدة صغيرة، وفي البلدات الصغيرة تحصل الألفة بين الناس بسرعة. لو مات هذا الحمال المسكين فسيشعر أهل السوق بالحزن والفقد لرحيله. الفقد حزن صارخ جدا سببه ألفة منزوعة غصبا عنا. إذا بلغ الرجل سن الأربعين تبدأ عنده “أزمة منتصف العمر”، السبب في تلك الأزمة هو الألفة. خلال الأربعين سنة التي عاشها الانسان، يختفي جيل وحياة قد ألفها الانسان ويظهر جيل جديد معه حياته الجديدة التي لم يألفها، كل هذا يحدث بهدوء دون ضوضاء، عندما يصحو الانسان فجأة من غفوة الحياة وهو في سن الأربعين يتلفت يمينا وشمالا فيجد وجوها غير الوجوه وحياة غير الحياة، يشعر حينها بالوحشة والغربة فتظهر ما يسميه أطباء النفس “أزمة منتصف العمر”.  كنت في مطعم مزدحم بالزبائن فسألت نفسي ما هو الشعور الذي أشعر به، أتت الإجابة من دماغي: “أشعر بالألفة”، ثم سألت نفسي ما هو الشعور الذي أشعر به عندما أتناول طعامي في مطعم خال من الزبائن. أتت الإجابة: “الوحشة”. التسويق هو فن صناعة ألفة سريعة ومستدامة مع الزبائن.