في ديوان على عتبات الضوء للشاعر ناصر الوسمي ..

سيمائية الجمال والذات المؤولة .

تتنزل المدونة الشعرية (على عتبات الضوء) للشاعر ناصر الوسمي في خمس وستين قصيدة مقسمة على أربعة أقسام، عتبة الغزل، حظيت على الجزء الأكبر من المدونة، وعتبة الرثاء، وعتبة الإخوانيات والمناسبات، وعتبة الدول، كتبت في الفترة ما بين 2008 إلى 2024م، وصدرت عن دار ريادة للنشر والتوزيع عام 1446هـ. وعندما دققنا النظر في هذه المدوّنة الشعرية، لاحظنا أنها تقبل القراءة في ضوء التصور السيميائي الذي يعتمد على السيرورة الدلالية، باعتبارها حجر الأساس في أي عمل تأويلي، ولسنا بصدد طرح مفهوم السيميائية في التراث العربي أو الغربي، كون الورقة تقدم تطبيقًا لها. وهذه السيرورة التأويلية حسب (بورس) تقوم على ثلاثة مستويات من التأويل: المؤول المباشر للعلامة النصية الجامعة في صيغتها البدئية، وما تقترحه. والمؤول الدينامي الناتج عن المعنى الذي تكتشفه الثقافة العامة بمختلف الدلالات. والمؤول النهائي الذي تستقر عليه الذات المؤولة إلى مدلول معين تبعث فيه الاطمئنان. وتتلخص الإشكالية في تحديد العلامة الجامعة في هذه المدونة، ومتعلقاتها، والعلامات التي ترجع إليها رجوع الفرع إلى الأصل، ثم اكتشاف السيرورة الدلالية التي قطعتها هذه العلامة في النصوص لإنتاج ملامح التجربة الجمالية، والوظائف التي حققتها العلامات والرموز. وأتت هذه القراءة سعيًا إلى الكشف عن مكنونات القصيدة الشعرية من خلال الوصول إلى المعنى في بناء الشاعر لنصِّه الشعري، ولا يمكن الوصول إلى هذا المعنى العميق إلا باستقراء العلامات والرموز المدلة عليه، ولذلك فإن القراءة تتركز على السمة الأبرز في المدونة الشعرية، برصدها أثناء القراءة الفاحصة، وتقصيها منذ البداية إلى النهاية في سبيل استكناه الدلالة وفق النسق الرمزي الشائعِ الذي به يتحدد وجه التشاكل والتباين في النص، مما يسهم في تأويل رؤية الشاعر، وتتمكن أن تكشف هذه القراءة عن سمة الجمال ودلالات ألفاظها، وإيحاءاتها، وأبعادها الحسية والمعنوية، ووظائفها وفق السياق الذي وضعت فيه. وليس من العسير على القارئ في هذا الديوان أن تتجلى له العلامة الجامعة بما هي ظاهرة شائعة فيه، وهي علامة (الجمال)، فقد اتكأ الشاعر على مفردة (الجمال) في رسم الصورة الشعرية، واتخذها وسيلة لتحقيق غايات متعددة في النص، فعينها تعينًا صريحًا من ناحية، وبصورة غير مباشرة من ناحية أخرى، في تعبير مجازي. أما متعلقات علامة (الجمال) التي ترجع إليها رجوع الفرع إلى الأصل، فهي: (الحسن، السحر، الافتتان، البهاء، الرواء، النداوة، النضارة، الروعة، الزهو، السناء، الألق، الملاحة، المعسول، الصفاء). وكما أن لها علاماتٍ قائمة على المجاز وأساسها التشبيه والاستعارة، وأيقونات ترجع إليها رجوع الفرع إلى الأصل، وهي: (ربيع العمر، مشية الغزلان، وسع العين، ثوب عروس البحر، مليكة، الثريا، سكر، التغنج، الانتشاء). فما الدلالة التعيينية للعلامة الجامعة وفق المستوى الأول من التأويل المسمى بالمؤول المباشر؟ يمكن تحديد المؤول المباشر من خلال المعنى التعييني المعجمي، الجمالُ: «مصدرُ الجميلِ، والفعلُ جَمُلَ... أي بهاءٌ وحُسنٌ.. والحُسنُ يكون في الفعلِ والخَلق... والجمالُ حَسَنُ الأفعال كاملُ الأوصاف...» (انظر: لسان العرب، مادة: ج.م.ل)، وقد أقام الشاعر قصائده على فكرة الجمال، وما تضمه من دلالات تستدرج المتلقي إلى الإقبال عليها، والاستمتاع بها، فيجسد نظرته الخاصة في الجمال تجاه مظاهر الحياة، فيوظفها على النحو الذي ارتضاه لنفسه وأغرى به غيره. فما هي السيرورة الدلالية التي قطعتها هذه العلامة في الديوان لإنتاج الدلالة الجمالية عند الشاعر؟، وهذا السؤال يحيلنا على المستوى الثاني من مستويات التأويل السيمائي البورسي، ونعني به المؤول الدينامي. يدور الغرض في الديوان على وصف الجمال، والكشف عن رؤية الشاعر من خلال الحكاية الواصفة في بنية النص على اختلاف توجهها سواء في الغزل، أو المدح، أو الرثاء، أو الإخوانيات، أو الوطن، وتتبين فيها الرؤية تجاه المواقف والسياقات. حاول الشاعر أن يقنع المتلقي برؤيته الخاصة في الحياة من خلال ما قدمه من نصوص تناولت مفردة الجمال، ومتعلقاتها بهدف التأثير فيه واستمالته إليه متكئًا على الوصف، والبناء الحجاجي، ويؤكد هذه الرؤية قائلًا: أنا الوسميُّ تعرفني القوافي يرتِّلُ عالمي وحيَ الجمالِ فما الشعر النابع من منظوره إلا وحيُ جمالٍ يأنس به المتلقي من خلال الرؤية الخاصة به. ويلبس الشاعرُ الجمالَ ثوبَ القداسة في إبراز الذات الممدوحة في قوله: هذا انتماؤكَ للجمالِ مقدسٌ مثلُ انتماءِ النخلِ للأحساءِ 177 واستدعاء هذا الرمز (النخلة) تعبيرًا عن روح الانتماء، ولما للنخلة من دلالات ثقافية تتمثل في إبراز الهوية، وأيضًا رمزية تتمثل في السماحة والسلام. وتكاد جمالية الحرف أن تغادر لدى الشاعر نتيجة فقدان الصديق، في تصوير الوحشة التي تحاصره بعد الرحيل المؤلم، حيث يقول: أيتمتَ شعري في رحيلِكَ يا هوى الأشعارِ والحرفُ الجميلُ توارى 111 هنا ترتبط جمالية الحرف بجمالية الشخصية المرثية، فلا يرى الشاعر الجمال إلا في وجود الروح الجميلة التي تحملها الشخصية الراحلة، وبالتالي يفقد الجمالُ بريقه، ولا يرى الشاعر وجوده إلا من خلال تلك الشخصية العزيزة، وهذا الوصف ينقل لنا مدى فداحة الموقف، وتأثيره على المشاعر والأحاسيس. ويصبح الجمالُ وطنًا للشاعر حينما يفتتنه الجمالُ ذاتُهُ في دلالة على أنه لا يشعر بالطمأنينة إلا في الذات الجميلة التي تكسبه الأمان، ويتضح ذلك في قوله: ماذا يكون إذا سلمتُ مفتتنًا على التي حبِّها قد صار لي وطنا 99 هنا اتكأ الشاعر على ثقافة السؤال وهذا يحيلنا على مسألة الذات القلقة تجاه الطرف الآخر، مما يجعله أمام احتمالين متضادين يحضران في نفس الشاعر. وتنتقل العلامة من المستوى المعنوي إلى المستوى الحسي لدى الشاعر، فيصف أثر جمالية المشي على الطبيعة المحيطة بالذات الموصوفةِ حينما يقول: أغرى الشواطئَ سِحرُ مشيتِكِ التي تنسابُ شعرًا يشتهيهِ السَّاحلُ 92 فالوصف هنا عاملٌ مؤثرٌُ على الشعر، لما لسحر المشيِّ من أثر بالغ في استحداث سحر الشعر، وتأثير جمالية الذات في مشيتها على الذات الشاعرة. ويتحول الجمال إلى قاتلٍ في صورة لا تعبر عن الشؤم بقدر ما تعبر عن الجمالية في البناء الشعري، ويتجلى هذا المعنى في قول الشاعر: تتصدرين الشعرَ في غمراتِهِ رفقًا بأعيننا فحسنِكِ قاتلُ 93 كما يصبح الجمالُ فنانًا يرسم لوحة فنيَّةً تستميل الذات العاشقة في مخاطبتها للبصر منذ الوهلة الأولى، ويتضح ذلك في البيت الذي يقول: وجمالُكِ الخلَّاقُ يرسمُ فنه بكرًا تجاوز في مداهُ الحدَّا 71 ويتحول الجمال إلى رمز للحياة في وصف الشاعر للفتاة الفاتنة، حينما يقول: فتاةٌ تملأ الدنيا افتتانًا وتجعل من يباسِ العمرِ فُلّا 65 هنا يحيلنا الشاعر على المسكوت عنه وهو الماء الذي هو سر الحياة، فالعمر الموصوف باليباس لا يزدهر إلا من خلال وجود الذات المبللة بالحياة. كما أن الجمال يُكسب معظمَ الأشياءِ المحيطةِ به جماليةً حسيةً، ويتجلى لنا هذا المعنى في التشبيهات التي صاغها الشاعر قائلًا: وجمالُها كالوردِ يزهو والشذى من عطرِها الزاكي غدا يتعطَّرُ 63 يشبه الجمالَ بالورد في صورته الزاهية، ويتخذه مركزًا للشذى الذي لم يعد في صفته الزاكية إلا من خلال الذات الجمالية، وبها يتنفس الحياة في صورتها العطرة. ولا يسعنا المقام في ذكر الأبيات الكثير التي تضمنت علامة الجمال، في حين تقترح علينا الذات المؤوّلة أن تجنح في مستوى القراءة السيميائية إلى الاستقرار على مدلول معين، وهو ما يسمى المؤول النهائي، الذي يكبح بقوته الحركة الدينامية في التأويل والتي كادت ألا تتوقف عن حد معين في ظل العلامة الجامعة التي فرضت سيطرتها على النصوص، وبالتالي يصبح التأويل النهائي هدفًا يقودنا للوصول إلى خانة تأويلية تمنح الدينامية الراحة والاطمئنان، فالجمال الحاضر في النصوص الشعرية كان رمزًا للقداسة، والحياة، والوطن، والفن، والماء، والعطر، والألم، وحمل أيضًا صفة القاتل في جماليته. وإذا تطلب منا الوقوف على التأويل النهائي، فإنه يتخذ بعض الوظائف السيميائية، أهمها: أولًا: الوظيفة البنائية: اتكأ الشاعر على الأسلوب الكلاسكي في بنائه الشعري المتماسك مكوِّنًا لوحة جمالية ارتبطت بها العلامات الفرعية للجمال، وفي هذا الأسلوب الذكي استطاع أن يحقق الأهداف التي يرمي إليها من خلال توظيف لفظة (الجمال) ومتعلقاتها في معظم النصوص الشعرية، وذلك في رحلة أخذنا الشاعر عبرها إلى رسم نظرته للحياة، وما يتخللها من مواقف مختلفة. ثانيًا: الوظيفة الثقافية: نلمس في النصوص البصمة الثقافية، في استقلال المعايير الدينية، ورموزها، والعادات الاجتماعية، والثقافة العقلية في تقديم النتاج الإبداعي، وينجح الشاعر في استدعاء الأيقونات الثقافية في الحكاية الواصفة من أجل الاقتراب من المتلقي البسيط، وإغرائه بالأنموذج الشعري المثقلِ بالقيم السامية، مثل: الجمال تجاه المقدس، والوطن، والذات الجميلة، في قالب تشبيهي وانزياحي يفتح علينا أبواب التأويل للوصول إلى الدلالات المتعددة. ثالثًا: الوظيفة الجمالية: وغايتها اللجوء إلى التأثير في المتلقي عبر صياغة النص المنتج للدلالة الجمالية بهدف كسب قبوله للأفكار التي يتضمنها النص، فيدخل عالمه الجمالي، ويصادق على رؤيته الخاصة، ويتخلى عن العادات المتشائمة في ظل النظرة الجمالية التي تحملها الذات الشاعرة، وذلك في كيفية رسم مفهوم الجمال تجاه الحياة، والموت، والوطن، والحبيبة، والرموز الاجتماعية، ليضفي المتخيلُ جمالية على الواقع المؤلم تارة، ويبرز الواقعَ في صورته الجمالية تارة أخرى.