تأملات في قصيدة (تذكرة المجاز الأخيرة) للشاعرة حوراء الهميلي..
حس شعري قائم على الصورة المكثفة والرمزية العميقة.

اللغة بوابة إلى المعنى الشعر، في جوهره، هو نافذة على الروح، وهو وسيلة لاستنطاق المعاني المختبئة خلف الألفاظ، وفي قصيدة “تذكرة المجاز الأخيرة” للشاعرة حوراء الهميلي نجد أنفسنا أمام عمل شعري متكامل يمزج بين التأمل الفلسفي، والبعد الصوفي، والانتماء الوطني، مقدماً لنا تجربة لغوية غنية بالمجازات والصور الحية التي تستفز العقل والقلب على حد سواء، فالقصيدة تحمل للمتلقي مفاتيح العبور إلى عالم من التأملات الفلسفية، حيث يصبح الكلام معراجاً للرؤى، فتتماهى اللغة مع الوجود، فتصير الكلمة زرعا يسقى بماء الصورة، كما يزرع اللوتس في بحيرة المعنى. هنا، يصبح المجاز آخر تذكرة لعبور عوالم المعاني المتراكمة، حيث يتلاشى الفاصل بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والرؤيا. فالقصيدة لا تسرد أحداثاً، ولا تروي قصة تقليدية، بل هي أشبه بمتاهة فكرية، تتشابك فيها الرموز والدلالات، مما يجعلها نصا يتجدد مع كل قراءة، إذ تفتح اللغة أفقاً يتعدى الحروف، وتنسج المعاني بين طياتها ضوءاً وظلاً، حضوراً وغياباً، والشاعرة حوراء الهميلي في قصيدتها “تذكرة المجاز الأخيرة” لا تكتفي بجعل اللغة وسيطاً، بل تحولها إلى كيان عضوي ينمو، يتحرك، ويتموضع في جغرافيا جديدة. لكن، هل يمكن للكلمة أن تزهر؟ هل يمكن للمجاز أن يكون آخر وسيلة لعبور الحقيقة؟ أم أن الحقيقة ذاتها تغرق في ماء المجاز، فلا تمسك إلا بصورتها المنعكسة، كما في أسطورة نرسيس؟ الإنسان في التيه: هل السؤال يلغي الحقيقة؟ تبدأ الشاعرة قصيدتها بسؤال وجودي عميق: “مِن فرطِ ما ارتشفَ السؤالُ جوابَهُ ما عاد يفتحُ للحقيقةِ بابَهُ” هنا، تتحول الحقيقة إلى سجين داخل السؤال، فكلما اقترب الإنسان من المعرفة، كلما ازدادت دهشته وتكاثرت تساؤلاته، حتى يصبح السؤال ذاته عائقاً أمام اليقين. فالإنسان لا يدرك المطلق، لكنه يظل مفتوناً به، يطارده كما يطارد الضوء، وعندما يكتشفه، يهابه! الهوية بين الأرض والمجاز تنفتح القصيدة على رؤية فلسفية حول علاقة الإنسان بالأرض، حيث تتجلى الحقيقة في التراب الذي يضم الإنسان حين يعود إلى أصله الأول. تسأل الشاعرة بعمق: “ما الطينُ؟ ما الإنسانُ؟ غيرُ قداسةِ الوطنِ الممازجِ بالهوى أصلابَهُ” هنا، نجدُ فكرة الارتباط الجوهري بين الإنسان والأرض، حيث لا ينفصل الكيانُ البشري عن وطنه، بل يظل جزءا من تكوينه، ليس مجرد انتماء جغرافي، بل امتداد روحي تتمازج فيه الهوية مع الأرض، فيصبح الوطن حالة شعورية، لا مجرد مكانٍ للعيش. الصحراء والسراب: جدلية الوجود والعدم تواصل القصيدة اشتغالها على رمزية الصحراء والماء، حيث تتجلى قدرة الإنسان على خلق الأمل من رحم العدم: “إنْ قالت الصحراءُ: لا ماءٌ ... سيحلبُ مِن روعِ الأمنياتِ سرابَهُ” هذه الصورة تكشف عن روح المقاومة والإصرار في مواجهة القحط والجفاف، سواء كان مادياً أو معنوياً، فالإنسان في بحثه عن الحقيقة، وعن وطنه الروحي، لا يستسلم للفراغ، بل يحيله منابر للذكر، ومساحات للخلق والتجدد. الوطن بين الأسطورة والخلود في النهاية، ترتقي القصيدة إلى بعد أسطوري، حيث يقترن الوطن بفكرة الخلود، تماماً كما سعى جلجامش قديماً إلى تجاوز الموت، عبر بحثه عن عشبة الحياة، فيتحول هنا إلى رمز لطموح الإنسان في جعل وطنه خالداً، في إشارة إلى أن الوطن ليس مجرد مساحة جغرافية، بل هو كيان يسعى أبناؤه لجعله أبدياً في الذاكرة والتاريخ “وطنٌ يليقُ به الخلودُ كما اشتهى (جلجامشٌ) إذ يبتغي أعشابَهُ” هنا، يصبح الوطن جنة كونية، وتاريخاً ممتداً يتحدى الزمن، فتتحول الجغرافيا إلى حالة أبدية محفوظة في الذاكرة، وفي الشعر، وفي روح الإنسان. “تذكرة المجاز الأخيرة”: رحلة المجاز بين الشعر، الفن التشكيلي ،الموسيقى ، و السينما الشعر ليس مجرد كلمات تقرأ، بل حالة إبداعية تتقاطع مع الفنون الأخرى، تنساب مع الموسيقى في إيقاعها، تنعكس في السينما كصورة متحركة، وتتحول إلى ضربات فرشاة في الفن التشكيلي. قصيدة “تذكرة المجاز الأخيرة” للشاعرة حوراء الهميلي ليست نصاً مغلقاً، بل هي فضاء مفتوح للمجاز والتأويل، حيث تتداخل الفنون معاً لتشكل رؤية فلسفية للوجود. قراءة تشكيلية... هل يمكن رسم المجاز؟ في العمق، تحمل القصيدة عناصر بصرية تشبه لوحات الفن التجريدي، حيث يوظف المجاز كأداة تشكيلية ترسم بها الشاعرة عالمها: “فمشى وراء الضوءِ مفتتنًا به وتكشّف المعنى إليهَ فهابَهُ!” هنا، يتشكل الضوء كمادة حسية ملموسة، لكن بدل أن يكون عنصر كشف، يتحول إلى قوة غامضة مهيبة، كأنه فرشاة ترسم عالماً متبدد الملامح. هذه الفكرة تتقاطع مع أعمال مارك روثكو، الذي أعتمد على مساحات اللون والضوء كأدوات لتكوين تجربة بصرية شعورية، حيث يصبح اللون ذاته هو العاطفة، تماما كما يصبح الضوء في القصيدةِ هو المجاز، الذي لا يرى بشكل مباشر، بل يحس. أما في هذا المشهد: “وطنٌ برائحةِ الحنينِ إذا مشى وردُ الجنائنِ يبتغي أثوابَهُ” نرى كيف تتحول الروائح، والورد، والحنين إلى ألوان، إلى ملمسٍ بصري محسوس، يشبه لوحات كلود مونيه، حيث تنصهر الطبيعة مع الضوء في ضربات لونية حالمة، كأنها أصداء عاطفية تتجاوز الواقع الحسي. قراءة موسيقية ... الاكتشاف والدهشة قصيدة “تذكرة المجاز الأخيرة” تمتلك إيقاعاً داخلياً فلسفياً يجعلها قريبة من موسيقى تحمل طابع التجريب، الغموض، التأمل، والتيه الوجودي، ففي هذه المقطع من القصيدة يطرح تساؤلات وجودية بتأمل عميق، ويعكس إحساساً بالتجريد، التكرار، والهدوء الحزين فنجد صورة التيه والتردد بين المجاز والحقيقة، وسترافقنا موسيقى بيانو هادئ، بنغمات متقطعة كأنها تعبر عن الحيرة، مع تدرج درامي يوحي بلحظة الاكتشاف والرهبة وفي الخلفية هنا كمان خافت يوحي بالتردد والبحث، مع تصاعد بسيط في التوتر “مِن فرطِ ما ارتشفَ السؤالُ جوابَهُ ما عاد يفتحُ للحقيقةِ بابَهُ” فالموسيقى تشبه فكرة المجاز في القصيدة فهو يجعل الحقيقة غير قابلة للإمساك، حيث ينعكس المعنى على نفسه، كما تنعكس الأسئلة دون إجابات واضحة، فنجد النغمات متكررة وبسيطة جداً تعكس إحساس البحث عن الحقيقة، فمن أجل الاكتشاف والدهشة في المقطع التالي، سنجد دخول كمان رئيسي مع نغمة أكثر ارتفاعاً وإحساساً بالانفتاح، إضافة هارموني بين الكمان والتشيللو ليعطي إحساساً بالرهبة عند “فهابَهُ”.، إيقاع بطيء جداً، ربما مع جرس خفيف يوحي بلحظة التنوير: “فمشى وراء الضوءِ مفتتنًا به وتكشّف المعنى إليهَ فهابَهُ!” وبعد هذا سنجد أن الموسيقى، تماماً مثل الشعر، تفتح أبواب الأسئلة أكثر مما تقدم إجابات، مما يجعلها الترجمة الصوتية المثالية لروح القصيدة. قراءة سينمائية ... التيه بين المجاز والصورة السينمائية في القصيدة، نجد الإنسان تائهاً بين الحقيقة والمجاز، بين الضوء والظل، بين المعرفة والخوف: “هو مُمْعِنٌ في التيهِ يخشى لو يمسّ بثغرِ مصيدةِ الكلامِ عتابَهُ” هذه الحالة تعيدنا إلى السينما، خاصة أفلام ستانلي كوبريك، حيث تصبح اللغة مصيدة، والمعرفة بوابة للخوف، تمامًا كما في “ أوديسا الفضاء2001 “، عندما يصل البطل إلى “الحقيقة” لكنه لا يعرف ماذا يفعل بها. أما المشهد التالي: “فمشى وراء الضوءِ مفتتنًا به وتكشّف المعنى إليهَ فهابَهُ!” فهو أقرب إلى المشاهد التأملية في “شحرة الحياة “ لتيرينس مالك، حيث يسير الإنسان خلف النور، لكنه يكتشف أن النور ليس فقط كشفاً، بل مواجهة مع الحقيقة التي قد تزلزل كيانه. البناء اللغوي في القصيدة تتسم قصيدة “تذكرة المجاز الأخيرة” ببنية لغوية تجمع بين الفخامة الأسلوبية والعمق الدلالي، حيث تستخدم الشاعرة تراكيب لغوية متميزة، وصوراً مجازية مكثفة، وإيقاعاً متنوعاً يعكس انسجاماً بين الشكل والمضمون، على المستوى الصوتي، والتركيبي، والدلالي، والبلاغي في القصيدة،فقامت الشاعرة بتوظيف الإيقاع الداخلي والخارجي لخلق موسيقى شعرية متناغمة، فالقصيدة تعتمد الوزن التفعيلي، حيث تقترب من بحر الكامل (متفاعلن متفاعلن متفاعلن) أو تستلهم إيقاعه،كما أن القافية في القصيدة متغيرة، مما يضفي عليها تنوعاً موسيقياً ويكسر الرتابة، مع استخدام الجناس والسجع لخلق تدفق صوتي سلس تمثل قصيدة “تذكرة المجاز الأخيرة” نموذجاً للغة الشعرية الراقية، حيث يتجلى التناغم بين الأصوات والمعاني، والتشابك بين التركيب والدلالة، والتوازن بين الفكرة والتعبير، فعلى المستوى الصوتي، تحقق القصيدة إيقاعاً داخلياً متناغماً، وعلى المستوى التركيبي، تعتمد الجمل الإنشائية، والتكرار، والتقديم والتأخير لتعميق الأثر الدلالي، وعلى المستوى الدلالي، توظف الثنائيات الضدية، والأسطورة، والرمزية لخلق تأمل فلسفي في الوجود، والانتماء، والزمن، وعلى المستوى البلاغي، تزخر بالصور الاستعارية، والتشبيهية، والتكرار الفني الذي يعزز الموسيقى الداخلية للنص، كل هذه العناصر تجعل من القصيدة عملاً فنياً متكاملاً، يعبر بالحروف إلى فضاءات الموسيقى، والفن التشكيلي، والفكر الفلسفي. تجربة الشاعرة... القصيدة كمرآة للوجود تظهر الشاعرة حوراء الهميلي في قصيدتها “تذكرة المجاز الأخيرة” حساً شعرياً مرهفاً قائماً على الصورة المكثفة والرمزية العميقة فهي ليست مجرد قصيدة، بل رحلة في أعماق الفكر والهوية، حيث يمتزج السؤال بالحقيقة، والإنسان بالأرض، والصحراء بالمجاز، إنها دعوة إلى التأمل، وإلى البحث عن المعنى في خضم التيه، حيث يظل الوطن هو الإجابة النهائية، والملاذ الأخير، وبهذا، يظل النص مفتوحاً على قراءات متعددة، مما يجعله تجربة جمالية وفكرية في آن واحد.