في مجموعة (خشب المركب نادى خشب البيت) لحيدر العبدالله..

حضور الرمز منسجماً مع نسيج القصيدة.

على حطب الجزالة المعتق، يُخَدِّرُ حيدر العبدالله أباريق شعره، وفي استكانة الجمال الساحر الذي لا يستكين، يسكب أعذب سحره. شعر يأخذك من أول رشفة، إلى نهاية الأبريق حيث: «خشب المركب نادى خشب البيت». وفي(132)صفحة أو لوحة، من القطع المتوسط ترتشف مع سطورها ومنها الجمال. في مجموعة حيدر العبدالله الشعرية، الموسومة بِ: «خشب المركب نادى خشب البيت» . هذا العنوان الذي قد تستغربه أو تنكره لطوله، أو لغرابته، والذي ستهضمه، وربما تستعذبه حينما تقرأ كامل المجموعة. وكما يقول:«وأنَّ ترابطَ الأشياء أجدى من الأشياء تُربط في إطار» هذه المجموعة من إصدارات دار أدب للنشر والتوزيع، وبدعم من الصندوق الثقافي. الشاعر الذي يلفتك ويبهرك، ولا تستطيع أن تنسبه لغيره رغم حداثة سنه لن تجد له محلاً إلا بين عمالقة الشعراء، ستشتاق لإطلالة شعره كلما تصحرت بك الحياة «ووباءُ الشوقِ لو تدرونَ من (كوفيدَ) أوبا». طاقةُ ذكائه تمدُّ خياله بالخصوبة والنمو؛ فتُنتِجُ شجرةُ شعره فوانيسَ لا تنطفئ، وثماراً لا تجف. وبقدر استيعابه لمنابع الشعر وماضيه، وومضه فهو من أبرز شعرائنا الذين ينتمون للعصر الذي هم فيه، بكل ما فيه من تكنولوجيا، وتمدن، وعادات، من هموم، وتطلعات. وبحسب تتبعي لشعرنا الحديث وما فيه من تحديث في الأغراض الشعرية، ومواضيعها أجد حيدر العبدالله من أبرع وأبدع من تناول هذه التحديثات (قصيدة الكيس والهاتف أنموذجاً)، وأي طاقة إبداعية يملكها مَن يعطي الحياة لما لا حياة له، كالخشب، والطوب، والمفاتيح، والمعدن... لاحظه في قصيدة: مفاتيح، أبطأ نبتة تنمو، في محل الخياطة، حيوان المعدن، حفلة اعتزال مبكرة، قوارب ورقية. هذا التناغم المستعذب مع نبض العصر والمدنية لم يشغل شاعرنا عن مهد البناء للحضارات البشرية، وأساس تكونها: الأسرة، وَ»لا غروَ إنَّ الفنَّ مِهنته تحريك الأحاسيس». وما أروع الأسرة في إزميل شاعر، تأخذ مكانتها في الحضور وفي الشعور بأجمل احتفاء، الأسرة التي تواجه اليوم أعتى تحدٍ على امتداد تاريخها تحضر عند حيدر بكل مكوناتها، أُماً وأباً وزوجاً وأولاداً، وبيتاً، وما في البيت من مطبخ، ونوافذ، وأبواب، ومفاتيح، وتفاصيل، وموقع من ريف ومدنية. إنه روح الامتنان، الذي تضيئه طهارة الفطرة، ودقة الاتجاه لبوصلة طالما اضطرب اتجاهها واهتمامها في عصر الاغتراب والفردانية والضياع. «ما البيت يا أطفال بعدكمو سوى غفلٌ ومخزنْ بيتٌ من الأسمنت لا أطفالَ فيه كيف يُسكن» وفي هذه المجموعة لا تحتاج لكثير عناء لاكتشاف العلاقة التي تربط عناوين القصائد بمحتواها، فالعنوان هنا أيقونة القصيدة الناصعة، منه يبدأ، وإليه ينتهي، وفيه تسبح القصيدة، في علاقة عضوية متماسكة، ومتسقة. كما أنَّ للرمز حضوره اللافت في كل قصائد المجموعة حضوراً متوائماً ومنسجماً في نسيج القصيدة، لا نتوء فيه، ولا اغتراب، يسهم في تشكل المعنى ونموه، يستقصي فكرته، ويدوزن الأسماء وفق تسلسل محسوب، وحضور لافت، كما في قصيدة: العين المغمضة. تتدفق لغته الفنية بتنوعها الأسلوبي الرصين، وبجناسها المستعذب «وقلباً للعذوبة لا العذاب» «لا صوفَ عندي لا تصوُّفَ لا حريرَ لا حرارة في يدي قد أنتمي للقطن زهراً للخميلة لا ثيابا». « أمي الحياةُ والحياءُ والحيا» « لا تتلثَم لا تتلعثم « تشهق تشرق» « تعبس تنبس» « تغمز تلمز» ناهيك عن تلكم الكنايات العميقة والمختزلة، والمتماهية مع تفاصيل المعنى المنبسط في نسيج القصيدة، كما في قوله:« ودبابيرُ الكلمات خَلِيَّتُها فَمُك» متى؟ حينما «تضحك كالقرش، تبسم كالثعلب».