
إنه يبدأ القصيدة بشكل مغاير، لا يفعل مثل الآخرين عندما يجلسون طويلا محدقين في السماء كطيور جارحة. هو يبدأ قصيدته عندما يتحسس بخفة حزنا طفيفا ينقر نافذة قلبه كعصفور. تعلم ألا يفشي أسرار حزنه حتى لا يفسد مذاقها، بل يدع القصيدة تخبرك بكل شيء عنه. يبدو نصف شارد ونصف متيقظ، يراقب كل شيء بإحساس عالٍ.. لا يتحدث كثيرا كما أنه لا يضحك مطولا.. ولكنه كالأطفال في شِعره يركض حافيا تحت المطر، ينادي الأصدقاء، «عيال الفريج» واحدا واحدا ويرسم وجوههم في ذاكرة الطين والسعف.. يطارد غيم أحلامه وكأنه يستعيد عمره في «الكوت» قريته المغمورة بالغناء وبالنخيل. يقول عنهم: «الأصدقاء. هم الذين يمرون خافضي الأصوات. لئلا أربكَ حنينهم. أو أرتكبَ قلقاً لأرواحهم. كيما يأووا إلى النوم بكمال الطمأنينة. ذات الأصدقاء الذين وفّروا لي الليلَ كي أنشغل بهم. الأصدقاء الذين صاحبوا فؤادي وآزروا عريَه.» أنيق وطويل كنخل قريته، عندما تراه للمرة الأولى تجده أشبه بجسر يمتد نحو الأعلى طيبة وشموخا. وجه أسمر وديع، ولحية ممزوجة ببياض خافت، وهدوء يشبه ليل الأحساء الذي لم يفارقه حتى وهو يهب أحلامه للأيام وللحياة وللمدن الأخرى. لا أدري أي حلم كان يراود مخيلته صغيرا.. هل أراد أن يكون لاعبا بارعا؟ أم مزارعا يروي عروق الأرض كأسلافه؟ هل فكر بالشعر حقا وهو يكبر قريبا من النخلة وبركة الماء؟ ولكن الأكيد أنه الشاعر الذي لم يترنح منذ أول اشتعال للقصيدة وظل «منتصبا يمشي». «أحمد الملا» المولود في الأحساء العام «1961».. مزيج بيت العلم والزراعة.. الشاب الذي كاد أن يتوه لو لا الشعر حين أخذ بيده فاتجه نحوه بكله، ولم يترك منه شيئا لأي شيء آخر.. أو كما يقول هو عن علاقته بالشعر: «لو لا الشعر لما كنت موجودا، ولم تكن الحياة دافئة كما هي الآن.» كتب قصيدة النثر التي تشبهه كثيرا في -فوضاه الأنيقة.. وعناده.. وغموضه الشاسع.. وأفكاره الممزوجة بدهشة كل الفنون الأخرى- فكان جزءا منها، من مزاجها، من رقتها المستطابة وثورانها العاتي في وجه كل ما هو تقليدي ورتيب حتى تحولت مع كل عمل يصدره وينشغل به لأوردة تتفرع في هيكله المنحوت من أرض وسماء. في اعتقادي أن قصيدة النثر و»أحمد الملا» عثرا على بعضهما في مكان آخر قبل عالمنا.. جاءا معا مبللان بالدموع والمطر ورائحة الأرض والطرقات وصوت الحنين، جاءا لمرة واحدة لا تتكرر. هما وجهان لصراعات متتالية، صراعات الشاعر الذي أخذ على عاتقه مزج الحياة والناس بفلسفته المتدفقة وفكره المتنور، وصراعات قصيدة النثر التي واجهت أسنة الرماح وراوغت كل «الحرس القديم» لتكمل طريقها. عندما نمعن في تجربته نجد أنه لم يكن نمطيا، لم يكن اعتياديا وهو يقول قصيدته. التقى فيه «السينمائي» الذي يتجول في أعماق الشاعر بحرية ووعي كبيرين. التقى فيه الشغوف بالموسيقى واللوحة والصورة البارعة.. استطاع أن يأخذنا بكل حرفية في الأعمال الشعرية بين صور غاية في التماهي الدرامي والتنوع البصري وكأننا مع «أحمد الملا» لا نقرأ القصيدة بل نقتفي أثر الناس في الوجوه، ونشعر بحركة الزمن، ونشم رائحة الربيع في العشب، ونسمع أحدهم يصرخ من بعيد «action». وقد يكون هذا الأمر عائدا لخلفيته العميقة في الوجود السينمائي الممتد من خلال تجاربه المتنوعة كتابة وإدارة. منذ ديوانه الأول «ظل يتقصف 1995» وهو يكتب بطريقته ويعتني بالمفردة ويسخر كل تجاربه الإنسانية من أجل أن يشعل قنديلا لكل مساء، وينثر فجرا لكل صباح. التجربة عند «أحمد الملا» استمرت في تجاوز المراحل والتصنيفات لتكون هي «مرحلة مستقلة» أكثر نضجا وتفوقا. ربما لأنه من ذلك النوع الذي يرفض بطبعه الالتفات للخلف، ويرفض أيضا أن يقرأه الناس في تجربة مماثلة. وتوالت الأعمال.. « خفيف ومائل كنسيان 1997» و» سهم يهمس باسمي 2005» و»تمارين الوحش 2010» و» كتبتنا البنات 2013» و»علاقة فارقة 2014» و»الهواء طويل وقصيرة هي الأرض 2014» و» ما أجمل أخطائي 2016» وغيرها وصولا إلى «يا له من يوم هائل 2024» بالشراكة مع لوحات الفنانة المبدعة «ريم البيات». بل توالت جماليات الكتابة المدهشة والتي كانت تبدو غرائبية عند البعض في تكوينها الأول. تشكلت الحالة الإنسانية مبكرا في قصيدته بدءا من «العنوان» الذي كان بمثابة المفتاح السحري في كل أعماله، النافذة التي نتلصص من خلالها على عقل «أحمد الملا» قبل أن نقلب صفحات الديوان. يقول الشاعر «ماجد الثبيتي»: العنوان هو ابتكار لنص جديد ومستقل.» وهكذا كان يفعل شاعرنا مع العنوان الذي يسير بنا عبر أبواب مشرعة على كل الأسئلة الصامتة، وفي الطريق يجعلنا نتساءل بعمق أكبر وكأنه يلقي بنا في مجرة من الدوامات ويمضي. هو لم يكتب القصيدة ليجيب عن أسئلة، لم يكتبها ليوقف شلال الخطيئة الأبدي. ما كانت تلك مهمة الشاعر تحت قبة «أحمد الملا».. إنه يكتبها لنذهب معه بعيدا إلى حيث تولد الأفكار وتنجب الأسئلة أسئلة أخرى. إنه مفتون بالتذكر، يجلب حاجيات قصيدته من دكان ذاكرته المزدحم بثقافة متنوعة انغمس فيها منذ «الصحوة والاستيقاظ». ربما يحرضنا، أو يود أن يجعلنا نتذكر معه صورا آتية من هناك.. حيث أراد وحيث لم نكن معه.. تفاصيل يتعايش معها في القصيدة ويتشاركها بكل براءة معنا. يقول في ديوانه «يوشك أن يحدث 2020»: «ماذا لو التقينا، ماذا لو تصافحنا، ربما ينقطعُ الوهم، ونكشفُ عن عاشقينِ أو غريبين، أصابَتْهما الرجفةُ من شِدّةِ الترقب، وتلمعُ الصُّدفةُ بالعناقِ أو الحذر ربما، ثم نمضي معاً في تَعدادِ خيباتِنا.» يشبهنا «أحمد الملا» كثيرا ولا يشبهنا.. فهو يتسلل كالضوء من نوافذ الصباح، يرتب لنا موائد الفرح اليومي، ويضع السكر في الشاي الأحمر، ويسكب لكل واحد منا قصيدة تعتني به ومن ثم يبحر إلى وجهة في مخيلته. في كل مرة نبحث عنه نجده كما ودعناه في آخر مرة، مع فارق بسيط في تسارع دقات القصيدة لديه وكثافة عالية في الدفء نحو كل الأشياء التي يصر على ملامستها بروحه. لا يشبهنا «أحمد الملا» لأنه كثير وغزير في كل شيء، متطرف في حب الشعر والناس والحياة. ربما هو في هذه اللحظة التي أحاول أن أختم فيها كلماتي عنه يجلس مستندا ذراعه محاولا قطف قصيدة أخيرة قبل أن يمضي المساء، وقبل أن تكمل «ريم» لوحتها. هو لا يتوقف عندما ينهمر.. صدره مشرع على أفق القصيدة وكأنه بحار عتيق قلبه بوصلة تشير دائما نحو الجمال الذي لا يؤمن بسواه ولا يتنازل عن العيش بدونه.. وكأنه تفسير منطقي وحقيقي لقول الروائي إدواردو غاليانو: «يجدر بنا أن نموت من أجل تلك الأشياء التي بدونها لا يجدر بنا أن نعيش». * كاتب سعودي