عمارة المدافن الدلمونية جنوب الظهران.

الألف الثالث قبل الميلاد ونتيجة للاتصالات الأولية مع بلاد النهرين من جهة، ولاتساع آفاق العلاقات العالمية من جهة أخرى، ظهر على مسرح الأحداث التاريخية أولى المستوطنات المدنية في الجزيرة العربية، حيث كانت مملكة دلمون احدى تلك المستوطنات التي انتشرت في شرق الجزيرة العربية، ومدافن جنوب الظهران أحد المواقع الاثرية التي تعود لمملكة دلمون. حيث تحتل المنطقة الشرقية والمتمثلة بالجزء الشرقي من المملكة العربية السعودية أهمية كبيرة، وذلك لتوسطها بين المراكز الحضارية القديمة وإشرافها على جزء كبير من ساحل الخليج العربي الذي لعب دوراً مهماً في العلاقات بين الشعوب القديمة في مجال التجارة، حيث عرفت برخائها المادي فهي منطقة تجارية تستقطب طرق القوافل البرية والبحرية وهي قريبة من المركز التجاري بجزيرة تاروت ودارين وسوق الزارة والجرعاء. والمدافن الموجودة في المنطقة الشرقية تعطي دليلاً على أن عمليات الاستيطان البشري كانت سائدة منذ ألاف السنين. حيث تقع تلال المدافن المكتشفة بجنوب الظهران جنوب غربي مدرجات مطار الظهران المدني بالمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وشمال غرب عين السيح وبالجنوب منها تقع منطقة زراعية تغطيها الرمال الزاحفة، وتعد هذه المدافن امتدادا مشابها لمدافن البحرين. ويعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد. ويقدر عدد هذه التلال بحوالي ألف وخمسمائة تلا. خلال مطلع ونظرا للتوسع الكبير الذي شهده مطار الظهران وقاعدة الملك عبد العزيز الجوية جرت مكاتبة بين وزارة المعارف ووزارة الدفاع حول تلك المنطقة الأثرية لحمايتها وعدم الاضرار بها. فقد نظمت برنامج لحفريات إنقاذيه للموقع ففي عام 1403 هـ/ 1404هـ تم اكتشاف اثنين وعشرين تلا بمنطقة (أ) وستة عشر تلا في منطقة (ب). وكشفت الحفريات أنماطا متعددة من المدافن منها الجماعية حيث بلغ في بعض الأحيان وجود سبعة عشر أو عشرين هيكلا في مدفن واحد، كما اكتشفت كذلك المدافن الفردية. وفي بعض الأحيان يوجد في التل الواحد أكثر من مدفن رئيسي. كما أن المواد المستخدمة في عمارة المدافن تعكس الطبيعة البحرية، فبعض المدافن مبنية من الصخور المرجانية والفروش والأحجار الجيرية التي تكثر بمنطقة الخليج، وبشكل عام فإن المدافن في الظهران قد بنيت على أرضية مستوية واستخدمت الحجارة المرصوصة والمونة والحجارة الصغيرة لتحشيه ما بين الحجارة الكبيرة، واستخدم الجص المحلي في البناء وهو عبارة عن طينة بحرية محروقة وقد دعم التل من الخارج بالأتربة. ومن الملاحظ في المدافن الكبيرة أن الجزء السفلي أكثر عناية من الجزء العلوي والحجارة والمونة المستعملة أكثر انتظاماً منها في العلوي. فطريقة البناء بشكل عام هو انتظام المداميك ومليء الفراغات بالأتربة ورشها بالماء حيث كان الماء يستخدم بشكل قليل، والمداميك السفلية أكثر تشبعا بالطين من المداميك العلوية. ويضم المدفن الواحد رصيفا وجدران يحيط بأطرافه، ويبلغ طوله حوالي ستين قدماً، ويضم المدفن تابوتاً حجرياً، كما تضم المدافن الكبيرة أكثر من قاعدة واحدة للدفن مبنية من كتل الأخشاب. أما الحجرات فهي مستطيلة الشكل وموجهة باتجاه الشرق والغرب، وتتصل التجويفات الصغرى غالبا من جهة الشمال الشرقي والجنوب الشرقي مشكلا حرف L و T. والجدار الدائري المحيط غير منتظم الشكل ومبنية بكتل من الحجارة مع حجارة صغيرة، أما القبور الثانوية فهي متصلة بالقبر الأساسي عن طريق جدران نصف حلقية محيطية وهي أقل جودة وإتقان في البناء. وتوجد عادة فوق الحجرة الرئيسية وبدون تجويف. أما التسقيف فيتم عن طريق وضع قطعة حجرية كبيرة لتستند على طرفي الجدران مشكلة سقف القبر، بحيث تميل الجدران تدريجيا نحو الداخل عند ارتفاعها لكي يكون عرض القبر عند التسقيف أقل من قياسه عند الأرض وذلك حتى يساعد على استناد القطع الحجرية الكبيرة التي تمثل السقف. وقد كان من المتبع في تلال المدافن لفترة دلمون أن يكون الجدار الغربي هو آخر ما يشيد بحيث يبقى القبر بعد تغطيته مفتوح من الغرب، أي بمثابة مدخل للقبر. وتجري عملية الدفن بوضع الميت والهدايا الجنائزية من هذا المنفذ، خاصة القبور المزودة بباحة. توضع بعد حجارة الجدار الغربي ليكون الجدار الوحيد من بين جدران القبر حجارته غير منتظمة من الداخل كبقية الجدران، لعدم تمكن مشيدي هذا الطراز من القبور بعد وضع الميت من انتظام حجارة الجدار من الداخل، أسوة بالجدران الثلاثة الأخرى. وتشير الخصائص المعمارية لهذه المدافن إلى القدرات العلمية والتقنية في أساليب البناء، والدقة في اختيار المواد المستخدمة في البناء لتلك المدافن. ويلاحظ ان المدافن بجنوب الظهران قد التزمت مداخلها اتجاه الغرب مع اختلاف في درجة ميلانها على حسب اختلاف فصول السنة وهذه الميزة تميزت بها مدافن الظهران عن غيرها. وقد عثر بالمدافن بجنوب الظهران على هياكل حيوانية لأسماك وجمال وماعز وخراف قد دفنت مع الميت أو بالقرب منه. كذلك عثر على عدد من الخرز الصيني والصدفي ذو الشكل الأسطواني والمحدب والمخروطي والكروي والسداسي وتختلف في احجامها واشكالها ومادتها. وأواني حجرية وقشور بيض النعام حيث تستعمل أواني ماء. وسلال مطلية بالقار، وأدوات عاجية، ووجدت عدد من المباخر، والحلي والخناجر والأواني الفخارية والزجاجية، أما ما يتعلق بفخار الظهران نجد أنه قد امتاز عن غيره بموصفاته المحلية فهو ذو قاعدة مدببة وعنق أسطواني وذا طينة حمراء. فقد عثر بداخل المدفن على أوانٍ فخارية عرفت بالفخار الدلموني وهو يتشابه مع ما عثر عليه في البحرين، كذلك استخدمت الجرار الفخارية لدفن الموتى من الأطفال. كما تم العثور في مدافن الظهران على عدد من الأكواب الصغيرة التي تتنوع في الشكل من الأفواء المفتوحة الى الأنواع ذات العنق المغلق والحافة المقلوبة للخارج، وفي الغالب تكون حافة الأواني المصنوعة يدوياً أو بالدولاب. كما عثر على رؤوس السهام والدبابيس والأختام التي عرفت بالأختام الدلمونية. الى جانب الأسلحة والتي اقتصرت فقط على مدافن الرجال. وبعد هذا العرض المفصل لمدافن جنوب الظهران والتي أرخت الى الألف الثالث قبل الميلاد وما يتصل بها من عادات للدفن ومرفقات جنائزية ومعتقدات دينية يلاحظ أن تلك المدافن لا تختلف كثيراً عن المدافن الدلمونية في البحرين. باعتبار أن أصحاب تلك المدافن كان لهم في يوم من الأيام كيان سياسي مستقل، وكان موقع شرق الجزيرة يؤهل لجذب عدة عناصر وثقافة مختلفة من المناطق المجاورة لها. كما أثروا بدورهم في أصحاب تلك المؤثرات الوافدة. فقد شهدت المنطقة استيطانا بشريا مكثفا منذ العصر الحجري القديم، وخلال العصر الحجري الحديث شهدت المنطقة الشرقية تغيرات حضارية من خلال تطور أساليب المعيشة، وقد كانت البدايات الأولى لظهور القرى المستقرة والزراعة في الواحات بالمنطقة الشرقية منذ نهاية الألف الثامن قبل الميلاد ومنتصف الألف السادس قبل الميلاد. كما أدت المنطقة الشرقية دورا مهما في التجارة العالمية، مما ساعدها أن تكون المركز الأول لحضارة دلمون ومقرها جزيرة تاروت التي كانت العاصمة الأولى لهذه الحضارة. إلا أن هذا الازدهار أصيب بالضعف خلال الألف الثالث قبل الميلاد والذي نتج عنه تدهور حركة التجارة بالمنطقة والذي يتزامن مع موجة الجفاف الشديد التي عمت مناطق العالم خلال الألف الثاني قبل الميلاد. وصاحب تلك التغيرات انهيار المراكز العالمية الكبرى في بلاد الرافدين. مما ساعد على انتقال الحضارة الدلمونية من شرق الجزيرة الى البحرين. ثم ورث حضارة وممالك دلمون أقوام جدد عرفوا بالجرهائيين وهم من الأقوام العرب أقاموا لهم إمارة قوية واتخذوا من جرهاء عاصمة لهم وعم الثراء وحياة الترف المنطقة في عهدهم. بعدها دانت المنطقة تحت إمارة التنوخيين. وتبعها إمارة كندة العربية في فجر الإسلام. وعادت المنطقة تحت حكم المناذرة بعد انهيار إمارة كندة. وهناك من المكتشفات الأثرية التي تشير الى حضور تجاري لهذه الحضارات في تلك المنطقة. فمنطقة مدافن جنوب الظهران مجاورة لمرفأ بحري ذي استراتيجية خاصة، وهي محطة تجارية برية أيضا. وذلك لارتباطها بالمراكز الحضارية على الخليج العربي وجزء من الساحل الشرقي لجزيرة العرب. المراجع العربية:......................... ــ إبراهيم، معاوية: دراسات في المسكن والمدفن في الوطن العربي، المدفن في الشرق القديم سوريا، فلسطين بلاد الرافدين، والخليج العربي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1987 م. ــ بابلون، أرنست: الآثار الشرقية، الطبعة الأولى، دار حكمت شريف، لبنان، 1987م. ــ الصويلح، عبد العزيز علي إبراهيم: مملكة البحرين في الألف الثالث ق.م، تلال مدافن مدينة حمد، وزارة الإعلام، 2003م. ــ المغنم، علي صالح: تقرير مبدئي عن التلال المكتشفة في جنوب الظهران، الموسم الثالث، 1405هـ/ 1984م، أطلال، العدد العاشر، 1406هـ/ 1986م. ــ المغنم، علي صالح: تقرير مبدئي عن حفرية الظهران، الموسم الرابع، 1406هـ/ 1986م، أطلال، العدد الحادي عشر، 1407هـ/ 1987م. ــ المغنم، علي صالح: نص مادة الفلم الوثائقي، حفرية جنوب الظهران، 1406هـ، تقرير لم ينشر. ـ الصيخان، وهايب، مدافن جنوب الظهران دراسة اثرية معمارية، رسالة ماجستير، جامعة الملك سعود، 1433هـ. *ماجستير آثار ومتاحف