فيلم «الربيع، الصيف ، الخريف ، الشتاء والربيع»..

رحلة تأملية فلسفية ترسم عالماً ساحراً بطهره ونقائه.

التحفة السينمائية (الربيع ، الصيف ، الشتاء، ثم الربيع ) للمخرج الكوري الجنوبي «كيم كي دوك » لوحة سينمائية فلسفية تتابع مراحل من حياة راهب بوذي شاب ، كل موسم هو في الواقع درس في الحياة ، ويمثل دورة الحياة من مرحلة الطفولة الى المراهقة وبعدها الثقة بالنفس في مرحلة البلوع واخيراّ مرحلة الشيخوخة . في معبد بوذي خشبي في وسط بحيرة يعيش راهب بوذي عجوز وتلميذه الصغير . تتوافق المواسم التي تم الإعلان عنها في العنوان مع خمسة مراحل من عمر التلميذ 10 و 20 و 30 و 40 و 50 عاما على التوالي . مع مرور الفصول ، يتعلم الطالب الحياة من خلال عاطفته وأخطائه وهروبه من الواقع . الفيلم لوحة جدارية عائمة عن جمال الحياة ، يمثل كل موسم حقبة مختلفة وتتسلل حياة الشخصية خلال المواسم المختلفة . هذه هي الطريقة التي تتمخور حول حياة شاب في معبد بوذي في وسط بحيرة . ونتابع مراحل حياته من طفل يعيش مع سيده الحكيم حتى يصبح بالغا . يكتشف الحب والكراهية والحزن ، وقبل كل شيء يكتشف الحياة ، يقدم الفيلم رؤية تأملية للإنسان والطبيعة ، حكاية شاعرية جميلة ومأساوية تمثل الطبيعة البشرية . صورُ لمناظر طبيعية ذات جمال باذخ في لقطات فخمة ، حوارات قليلة ولكن الصور تتحدث وتقول الكثير . الفيلم قصيدة سينمائية أو قصة قصيرة ملونة الصور . وأعتبره أفضل فيلم في مسيرة المخرج (كيم دوك) بأكملها والأكثر توازنا وجمالا ، مع صور تنقل المشاهد إلى عوالم من الأيقونات الشرقية والروحانيات البوذية من خلال حكاية جميلة بسيطة تمثل الحياة نفسها ، وكل ذالك يحدث في منزل صغير يطفو على بحيرة محاطة بالجبال العالية ويتصل بالعالم من خلال قارب يصل إلى عتبة باب يفتح على طريق داخل المنزل - البحيرة وهو الخيط السري والطريق إلى العالم ، الأشجار مع أوراقها تتغير ألوانها وفقا للمواسم ، في المنزل يعيش راهب بوذي عجوز وطفل سيصبح مراهقا ثم رجلاً بالغا لاحقا ، لينتهي به الأمر إلى تولي دور الراهب بعد أنتحار سيده الراهب العجوز ، وعندما يبلغ سن الشيخوخة وتبدأ الدورة مرة أخرى بوصول طفل جديد إلى المنزل . لكل فصل معنى ودلالة ، موسم الربيع هو عصر البراءة والقسوة تحكمه . والصيف وقت الحب والرغبة ، أما موسم الخريف وقت الغضب والألم ، أخيرا ، فصيل الشتاء الذي يمثل وقت الوصول إلى السلام الحكمة وفي نفس الوقت الفراغ . يقدم لنا المخرج انعكاسا عن الوجود والطريقة التي ننضج بها جسديا وروحياً . ويوضح تعاليمه بقالب شرقي جميل ، حيث شكل حكاية خرافية بوذية مع إيحاءات سردية عبر سرد تاريخ يمثل الأبطال وهما راهبان بوذيان ، فكرة النمو خلال دورات المواسم ، تنتهي دورة واحدة ثم تبدأ أخرى . طفل تلميذ عن راهب عجوز ينمو خلال الفصول المختلفة ، الربيع ( الطفولة ، التعلم ) ، في الصيف ينمو الشاب عاطفيا ؛ وفي الخريف تكون مرحلة البلوغ والنضوج ، أما الشتاء يشير الى الشيخوخة، ثم تبدأ دورة جديدة . يتناول الفيلم حكاية الراهب البوذي العجوز وطفل صغير يعيشان في عزلة عن كل شيء في كوخاً في وسط البحيرة . في موسم الربيع طفل صغير يعيش في منزل عائم في وسط بحيرة صغيرة مع راهب عجوز ( الممثل يونغ سو أوه)، يستمتع بربط الحجارة على ظهر سمكة وضفدع وثعبان . بعد أن رآه سيده يشعر الراهب العجوز بخيبة أمل فيه ، لذلك يربط حجرا كبيرا بالطفل أثناء نومه في تلك الليلة ويقول إنه لن يزيله إلا بعد أن يعثر الصبي على ضحاياه الثلاثة ويطلقها ، ويخبر الصبي أنه إذا مات أي من هذه الحيوانات فسوف يحمل الحجر معه في قلبه لبقية حياته . وعندما يجدهم الطفل يكتشف أن السمكة والثعبان قد ماتوا ، عندها بدأ في البكاء . الربيع يمثل الطفولة ، وهو أيضا البراءة اولكنه أيضا الوقت الذي تبنى فيه نرجسيتنا واللحظة التي يندس فيها العنف إلى عالم اللعب . يأتي الصيف و يشكل المراهقة ، . يتوافق الصيف أو المراهقة مع ظهور الرغبة ، والتي تصبح دافعا للسيطرة على الشخص المحبوب وتحويله إلى تابع . عند إحضار فتاة مريضة (يو جين ها) إلى المعبد من قبل والدتها للبحث عن الشفاء ، تمثل ولادة الرغبة الفتى الذي أصبح مراهقا . عندما يكتشف الراهب الحكيم مشاعر تلميذه يرسل الفتاة الى بيتها بعد شفاءها . لكن الشاب يهرب في الصباح الباكر ويحمل معه تمثال صغير لبوذا. وحين تتحول هذه الرغبة الغرامية إلى رغبة في الامتلاك فأنها تتسبب في الانفصال بين االشاب والراهب العجوز ، وأخيرا تدفع الشاب إلى القتل . ظهور الرغبة الجنسية تعبر عن رغبة الراهب الشاب في الاستقلال . يتمرد على السيد ( الراهب الحكيم) التي تقوده الى مغادرة المعبد للعالم الحقيقي . ويكشف في هذا السلوك تعارض بين التكوين الروحي للوجود والعالم الحقيقي للوجود . الخريف يتوافق مع مرحلة البلوغ ، إنه وقت الكراهية والقتل والانتحار. الغضب هو العمى الوجودي الذي يخفي الألم عنا والقدرة على ممارسة العنف والانتقام . يبشر هذا الفصل بعودة الشاب الضال ، وبعد سنوات قرأ الراهب العجوز خبرا عن تلميذه السابق يشير إلى أنه قتل زوجته بعد أكتشافه لخيانتها . يعود الشاب إلى المعبد بعد أن تلوثت روحه ، يصل التلميذ السابق الذي أصبح الآن شابا إلى المعبد حاملا التمثال ومليء بالغضب ، يعود إلى الدير يسحقه الشعور بالذنب ويواجه دوافعه المدمرة للذات . يعاقبه سيده الراهب العجوز بجلده في نهاية اليوم ، حاول الانتحار لكن الراهب العجوز منعه من ذلك ، وجعله ينقش سوترا على أرضية الدير لاسترضاء الروح . تهدف كل كثافة العمل إلى استرضاء العذاب الذي يشغله والتخفيف عن الذنب الذي أقترفه . ووعند وصول اثنان من رجال الشرطة . يمضيان الليل في المعبد حتى ينتهي التلميذ من النقش سوترا (هي مصطلح باللغة السنسكريتية يشير إلى مجموعة من الكتب الدينية في البوذية التي تحتوي على كلام وتعاليم البوذا الذي ألقاها خلال حياته) . بعد التكفير عن جريمته ، يسلم نفسه للشرطة لتحقيق عقوبته ومصيره . أما الراهب العجوز ، الذي لم يعد قادرا على فعل أي شيء لنفسه ويحتله اليأس ، بعد يرحيل المراهق لدفع ثمن جريمته ، يقرر الراهب العجوز بإنهاء حياته وإشعال النار في مركب داخل البحيرة وهو بداخله، أعتقد أنه يٌحمل نفسه مسؤول عن سلوك الطفل وعليه أن يدفع الثمن. سيختار مغادرة هذا العالم من خلال التضحية بنفسه عندما يأتي الشتاء . غزا الشتاء الوادي الصغير وغطى الجليد جثة الراهب العجوز ، وبعد عودة تلميذه الشاب الذي أصبح الآن في منتصف العمر إلى البحيرة بعد إنقضاء سنوات في السجن ، رجل ناضج (يلعبه الدور المخرج نفسه) ،يدرك أن الراهب العجوز قد رحل . وجد ممتلكات الراهب العجوز القليلة موضوعة وقد تركها له . يحفر في الجليد لتحرير القارب المغمور ، وبعد العثور على كتاب لمواقف فنون الدفاع عن النفس ، يتأمل الراهب البالغ في العديد من الأماكن الخلابة حول المعبد. يمارس الراهب تمارين العقل والجسد . يعتني بالدير ويدرب نفسه وفقا للإرشادات التي وضعتها الراهب في الكتاب الذي يتركه وراءه . في تصوير مدهش وجميل وشاعري خاصة المشهد في جلسة تدريب حيث يتعلم فن الدفاع عن النفس . في يوم جميل ، يفاجئ بزيارة أمرأة منقبة الوجه تحمل على يديها طفلاً صغيرأ ، تترك الطفل وراءها في الدير ، لكنها تقع بطريق الخطأ في حفرة جليدية وتنحدر داخل البحيرة المتجمدة وتموت . من هو هذا الطفل؟ من كانت االمرأة ؟ لماذا تركت الطفل وراءها ؟ ، وماذا سيفعل الراهب مع هذا الطفل ؟ . وصول امرأة تحمل طفلاً سيدفعه إلى القيام بطريق طويل من أجل التكفير عن ذنبه ، يجب أن يكون بعد ذلك مستعدا لتربية وتعليم راهب جديد ، مع انتهاء الدورة ، مع عودة الربيع من جديد الذي يمثل خاتمة الفيلم ، حيث يظهر لنا الطفل الصغير يتبع تعاليم سيده الراهب . وفي ظهر أحد الأيام ، بينما كان الراهب يتأمل الطبيعة وبجانبه الطفل يستمتع بتعذيب سلحفاة . يظهر لنا الفيلم ، كيف تتلوث الطبيعة البشرية بالشر الناجم عن الرغبة في الامتلاك الذي يولد الدمار والعنف دائما . يعكس المخرج رؤيته الخاصة في أن العالم قد تلوث بسبب رغبة الشاب في الامتلاك ومن ثم جنوحه الى قتل للمرأة التي أحبها، ليعود خائفا إلى هدوء المعبد . الرغبة الجنسية تؤدي إلى الرغبة في الامتلاك تلك الطبيعة البشرية التي ستؤدي بالضرورة إلى مستويات مدمرة ، مثلاً إلى العنف وفي بعض الحالات إلى الموت كما ينصح الراهب الحكيم تليمذه الشاب . يقدم المخرج الكوري الجنوبي سينما رمزية للغاية ومرسومة بعيون فنان تشكيلي وليس غريب وهو صاحب تجربة في فن الرسم ، وتجسد ذالك في تأطيره للمشاهد صور فنية ودمج العناصر المعبرة بقوة من كل موسم وكانها لوحات تشكيلية. ومع مصوره المبدع بايك دونغ هيون وكاميرته في كل لقطة لوحة تشكلية على حد سواء في شدة الأضاءة واللون . في هذا الفيلم تهيمن الصور البصرية إلبليغة جدا والمنقوشة في قوالب الشرقية. كان هذا الفيلم نقطة تحول في عمل المخرج الكوري الجنوبي” كيم كي دوك” و نجح في أعادة إنشاء سرد الحكاية من خلال المناظر الطبيعية والرموز البوذية التي تنقل السلام والصفاء إلى المشاهد . “ الربيع ، الصيف ، الخريف ، الشتاء ... والربيع “، مشبع بالبساطة والصفاء . يوضح لنا الفيلم أن العالمين ( الروحي والجسدي) يجب أن ينسجما ، ويجدا توازنا في سياق وجودنا. الطبيعة موجودة في كل مكان في هذا الفيلم وخاصة الجبل الذي يعد رمزا قويا للكوريين لإنه أصل الأساطير ، وبالتالي بداية ونهاية كل الأشياء كما أنه يرمز إلى الأم . يعبر صعود الراهب للجبل مع الحجر والتمثال الصغير في نهاية الفيلم ، عن اتحاد القوى الروحية والجسدية . يصبح حمل التمثال إلى أعلى الجبل وسيلة لإدخال الروحانية في عالم الواقع . مع هذا الفيلم التأملي ، حيث يتم صقل الجماليات وفخامتها من خلال تأطير رائع ومن عمل صائغ الذهب المخرج الكوري “ كيم كي دوك “الذي رحل في عام 2020 عن عمر 59 عاماً ، المخرج الذي لم يدرس السينما لكنه دخل عالمها من بوابة الفن التشكيلي، ولعل هذا ما منحه كل تلك القدرات على تقديم العالم كلوحة استثنائية يفاجئنا بها الفيلم أعجوبة شعرية وبصرية . الخلاصة: الفيلم واحد من أجمل الأعمال التي قدمتها لنا السينما الكورية ، كل موسم هو درس في الحياة وفرصة للتعلم . * كاتب عراقي