الصراع النفسي.. المُعَلِّم الخفي.

حين يجد الإنسان نفسه عالقًا بين رغباته ومعتقداته، أو مواجهًا لقرارات مفصلية، تتنازعها قيمه المترسخة من جهة، ومصالحه الدنيوية من جهة أخرى، فإنه يدخل في أتون صراع داخلي، يكون خفيًا، لكنه حاضر بقوة في وجدانه. هذا الصراع ليس مجرد تجربة عابرة، بل هو جزء أصيل من جوهر الكينونة البشرية، يتخذ أشكالًا متعددة، ويؤثر على مسار التطور النفسي والفكري للإنسان. كل فرد، في مرحلة ما، يمر بهذا الصراع بأشكاله المختلفة؛ أخلاقيًا كان أم عاطفيًا، وجوديًا أم سلوكيًا. إنه حالة من التوتر النفسي الدائم الناجم عن تعارض المشاعر والأفكار، حيث يجد المرء نفسه ممزقًا بين خيارات تبدو جميعها صحيحة أو، على العكس، كلها خاطئة. فقد يكون الصراع بين تحقيق منفعة شخصية والالتزام بالمبادئ، أو بين الحب والخوف، أو بين اتخاذ خطوة جريئة والبقاء في منطقة الأمان، وأشدّها وطأة ذلك الصراع الوجودي، الذي عادة ما يدور في السنوات المبكرة من العمر، حيث تتوارد الأسئلة الكبرى عن معنى الحياة والغاية من الوجود. أدرك الفلاسفة والمفكرون منذ القدم مركزية الصراع الداخلي في تشكيل السلوك الإنساني، فبحثوا في أسبابه وسُبل تجاوزه. رأى أفلاطون (427 ق.م. – 347 ق.م.) أن النفس البشرية مكوّنة من ثلاثة أجزاء، هي العقل، والشهوة، والروح، وأن الصراع الداخلي ينشأ عندما تتضارب هذه المكونات الثلاث، ولا يتحقق التوازن إلا حين يضبط العقل الرغبات العاطفية والجسدية. بينما اعتبر أرسطو (384 ق.م. – 322 ق.م.) أن الفضيلة تكمن في “التوازن الذهبي” بين الإفراط والتفريط، مما يساعد على تهذيب النفس. أما إيمانويل كانط (1724م – 1804م)، فقد رأى أن الصراع ينشأ بين “الواجب الأخلاقي” و”الرغبات الشخصية”، مؤكدًا أن التصرف وفق “القانون الأخلاقي المطلق” هو السبيل إلى تجاوزه. من جهته، اعتبر نيتشه (1844م – 1900م.) أن الصراع الداخلي ضرورة للنمو الشخصي، وأن الإنسان يجب أن يتجاوز القيم التقليدية ليبلغ مرحلة “الإنسان المتفوق”. بينما كان فرويد (1856م – 1939م.) أول من قدّم تفسيرًا نفسيًا لهذا الصراع، إذ رأى أنه نتاج التفاعل بين الرغبات الغريزية، الآخر(الهو)، والعقلانية (الأنا)، والضمير (الأنا العليا). وسَّعَ علماء النفس من فهم الصراع الداخلي، فصنّفه كورت لوين (1890م – 1947م) إلى أربعة أنواع هي “ صراع الاقتراب – الاقتراب” وذلك عندما يكون المرء أمام خيارين إيجابيين يصعب الاختيار بينهما. و”صراع التجنب – التجنب” حيث يُجبر الشخص على اختيار الأقل ضررًا بين خيارين سلبيين. و”صراع الاقتراب – التجنب “حين يكون الخيار الواحد يحمل جوانب إيجابية وسلبية في الوقت ذاته. و”الصراع المزدوج “عندما يتوجب الاختيار بين خيارين لكل منهما جوانب إيجابية وسلبية. أما كارين هورني (1885م – 1952م) فقد صنّفت أنماط التعامل مع الصراع إلى ثلاثة اتجاهات رئيسة هي “التحرك نحو الآخرين” وذلك بالسعي إلى القبول عبر التبعية والخضوع. و”التحرك ضد الآخرين” باستخدام السيطرة والعدوانية لتعزيز الأمان الشخصي. و”التحرك بعيدًا عن الآخرين” بالانسحاب والعزلة تفاديًا للألم العاطفي. يبقى الصراع النفسي سيفًا ذا حدّين؛ فهو إما أن يكون دافعًا للنمو، وإما أن يتحوّل إلى معوّق للحياة. فحين يُدار بحكمة، يصبح أداة لتعزيز الفهم الذاتي وصقل القدرة على اتخاذ قرارات رشيدة، أما إذا تُرك بلا وعي، فإنه يؤدي إلى القلق والإحباط. الصراع النفسي مسرحية أزلية، ممثلها الوحيد هو أنت أو أنا، ومسرحها هو عقلي أو عقلك، حيث تُعرض مشاهد التردد واليقين، الأمل والخوف، الاندفاع والتروي. وليس الهدف التخلص منه، فهو جزء من كياننا، بل الأجدى أن نتعلم كيف نصغي إليه، كيف نفهمه، وكيف نحوله من معاناة صامتة إلى أداة للنضج والإدراك. فالصراع ليس عدوًا، بل هو مُعَلِّمٌ خفي، يأخذ بأيدينا نحو أعمق زوايا ذواتنا.