يمثل الزمن ثيمة سحرية لدى الشعراء، والزمن بدوره يُعدُّ فاعلاً محورياً في حيوات الشعراء قديماً وحديثاً؛ ولذلك لا نستغرب من الشاعر علي الحازمي، في ديوانه (الآن في الماضي)، ذلك الاشتباك النصي مع المعطيات الزمانية. وأضحت من الفاعليات المهيمنة على المتن الشعري في الديوان، فابتداء من عتبة الديوان الأولى (الآن في الماضي) ستقع أبصارنا على المفردة (الآن) وهي ملفوظ زماني، وهي ذات دلالات مركزية، و”الآن” في اللسان العربي يدلُّ على الوقت الحاضر جميعه غالباً، ويقلُّ مدلولها على الآنيَّة بعضها أو جزء منها، فالغالب هو أن الآن تدل على الزمانية الآنيَّة والاستقبالية، والمفردة الأخرى في عتبة العنوان (في الماضي)، والماضي زمن يدلُّ على يومنا القريب أو على الأيام السابقة ليومنا على امتداد الزمان وهو الأكثر استعمالاً في اللسان العربي، واستعمال مفردة (الماضي) مقروناً بأل التعريف سيرمز إلى ماضوية متعينة ومحددة لشخوص بحسب كل مقام من مقامات الخطاب النصي. الشاعر في (الآن في الماضي) استثمر في هذه الثنائية المعهودة لدينا جميعاً (الحاضر والماضي)، فكان الحاضر هو القارُّ والماضي هو المتحرك، وهذا مكرٌ من النصوص بقرائها لاستدراجهم للمشترك الوجودي لكل قارئ ولكل مخاطب، وفي ذات الوقت عمدت النصوص وبدهاء على استحضار ما يلزم من الحاضر القارِّ وسلبه إلى مقامات ماضوية، وأهملت ما لا يلزم من مكابدات الحاضر الواقعي بل ومجَّتها قابعة في الآنيَّة الزمانية، وبذلك تخلصت النصوص من عنفوان المعيش الحالي وتسربتْ إلى حياتها المتوهمة المحزَّمة بسياجات من الرؤى والأحلام والخيالات المتصورة والتي بدورها غدتْ ملاذاتٍ آمنةً من الاعتساف المصطرع في حاضر ذي تنافسية محمومة وربما مسعورة. وينشأ من هذا السعي الدؤوب مشروع من عالم المثل والمبادئ والقيم أو عالم تسمه النصوص بعالم السلم والمسالمة، وهي عوالم ألحت عليها شخصيات النصوص: (وحدك دون غيرك) و (تلقي بحزنك صخرة في الماء) ونص (تأخذني الشواطئ في مدائحها) حيث يقول الشاعر فيه بلسان شخصية النص: وحدي أمام العمر تصغرني الأماني حين ألمحها تفتش من جديد عن وصايا الأمس لا ظِلَّ أُيامي البعيدة لامَسَ النجوى ولا ليل المرايا وزَّع الذكرى على قلق الكؤوس. (فالأمس) هنا وهو اسم للزمان الذي قبل يومنا مباشرة أو ما في حكمه من الامتداد الزمني الرجعي عند إرادة التوغل فيما تصرَّم من الزمان، واستعماله مقروناً بأل التعريف فيه إيماءةٌ إلى زيادات من توكيد الانزياح في القصدية الزمانية، أي أنها تتعمد زمانا بعيداً، وليس الماضي القريب المتعارف معجمياً باليوم الذي قبل يومنا، بدلالة الطرْق المتكرر على شساعة المدة الزمنية التي توردها النصوص. -في الأربعين يخالك الماضي قريباً من حدائقه وأنتَ هناك في بِيدِ المخيلة. -في الأربعين تزورك امرأة من الذكرى فلا تقسو على ناياتها متسائلاً عن أمس نجواها البعيد. لقد وظفت النصوص حيلة دلالية وهي الثنائيات الزمانية، وأقامت شَرَكاً ممتعاً لمتلقيها، واستقطبت قراءها للانحياز لما يعتقده قائلها علي الحازمي بصفته شاعراً: أنحاز على الدوام للكتابة عن الإنسان بكل عذاباته وأحلامه وخيباته. الديوان (الآن في الماضي) بوصفه نسجاً متداخلاً مع منتجه فإنه يرتبط بصلات وشائجية مع كافة المخاطبين، وتبرز في رداتهم الإيجابية وتظهر متنامية في تطلعاتهم المتخيلة وكأنهم وجدوا ذواتهم مرقومة في النصوص الشعرية، مع تسليمنا بشذوذ بل باستحالة تدارك كافة مرامي النصوص الشعرية في الديوان إلا إذا استرشدنا بتلك الفائدة التي بشرنا بها ابن عربي (إذا حضرَ الرقيبُ والحبيبُ فخاطبْ الرقيبَ بلسان الحبيب يسمعْك الحبيبُ، وتَفهمُ لسانَه فتأمنَ مِنْ غوائل الرقباء) فإذا استقامت هذه الفائدة تطبيقاً سيغدُو المخاطَبون منتجين للنصوص في أدناه على حالةٍ من التلقي التفاعلي، وسيصبح النص الشعري فردانياً في نشأته وابتدائه وجمعياً عاماً في سيرورته وانتهائه. وبذلك تكون النصوص قد حظيت بشمولية خطابها الوجودي والإنساني، وهو ما عبَّر عنه علي الحازمي الشاعر في محاوراته بقوله: (بل أكتبُ قصائدي عادة لكل الناس، كما أن قصائدي خاضعة لنظرتي الخاصة للكون والعالم، فالشعر متجردٌ تماماً من كل القيود، ويوجَّه لكل البشر في كل زمان ومكان). ولأن النصوص احتوت على ثيمات زمانية ومكانية كشواهد إنسانية فستكون هذه النصوص في أرقى درجات الاستشعار اقترابا للمتخيرات اللسانية وتحقيقاً لذروة الحساسيات التخاطبية، وستكون كذلك على بصيرة بملابسات التخلق الشعري المستقصد والمرتبط بما تستحضره المختارات اللسانية من معانٍ مستهدفة، ويتبدى كل ذلك على سبيل المثال في المهيمن اللساني والترميز الدلالي (كاف الخطاب)، ولا يأخذنا التعجب من نصوص الشعراء الإنسانيين، فنرى في النصوص نزعة الترفق بالمخاطبين وترنيمة الترقق مع الآخرين، والقارئ المتلقي في مقام من الاستجابة لنداءات وهتافات النصو ، وهذا الاحتيال النصي الذي تقصدته النصوص بدا أداة فاعلة لجودة التلقي ولحسن التجاور مع الديوان، وكل ذلك من أجل تحقيق مدايات مطلوبة من الوعي القرائي بالديوان، ومن أجل بلوغ الغايات في التواصل التخاطبي. إن المكون الأسلوبي والدلالي (كاف الخطاب) يوقظ أسماعنا إلى الالتفات للسياقات اللسانية، ويكدح في أذهاننا نوعيات أطياف المخاطبين، ويسترعي أنظارنا إلى أشتات من المتلقين، فهل (كاف الخطاب) يسعى للمخاطب الفريد والوحيد وهو المخصوص المعلوم أم أنه يسعى لوجوه عديدة من المخاطبين وهم المشمولون بالخطاب العام؟ إنّ استخدام كاف الخطاب في النصوص جاء في سياقاتٍ من التوظيف الشمولي وهو الذي يعبر عنه أهل اللغة والنحو باسم الجنس الجمعي، وهو الذي يشتمل على دلالة الجنس الإنساني بعامة، وهو يماثل ما تذهب إلى تسميته الفلسفة المعاصرة بالإنسان الوجودي، بمعنى أي إنسان في كل زمان وفي كل مكان. نستفيد مما سبق نشوء جماليات من التلقي لهكذا نصوص وخاصة إذا كان المتلقون على قدرة من الحضور القرائي المثمر والواعي وتمسكوا بلطيفة ما أعلنها ابن عربي في (التراجم) حيث قال: (الضمائر تعطي الاتصال والانفصال، فانظرْ بأي ضميرٍ تُخَاطَب؟ فتعرف عند ذلك أين أنت من المخاطِبِ؟ أفي محل قربٍ أم بعدٍ!؟). وللقارئ الكريم حق التساؤل، من أين تأتي النصوص بهكذا مخاطبين!؟ -الآن في الماضي وجدتك متخففاً قلبي النحيل من الصدى ويدنيني من الوجع القديم وجمره. - أطيرُ راقبني أطير على غمام سعادتي أطيرُ يحملني الخيال إلى بلوغ مباهج ودعتها منذ التقيتك. أرجو أيها القارئ الكريم أنك حلقت مع طيور الشعر وعرفت أن المخيال الشعري هو المعين الثري لكل نص يتأبى على الذاتية الفردية، ويسعى جاهداً ومحلقاً على الأجواء وعابراً لكل الحدود لرصد مواقف إنسانية عامة وإعادة صياغتها شعراً يستقطب بها جميع الوجوه والأطياف البشرية.