جذور لا تزول.

مهما انغمس الإنسان في التطوّر واستغرقته تفاصيل العصر، يبقى مشدودًا إلى جذوره، مسترجعًا عبق الأيام الماضية. هذه طبيعته التي لا تتغيّر، فتراه يقود سيارة بأحدث الطراز، ولا يستطيع منع نفسه من الالتفات إلى مركبة كلاسيكية، مثل كابريس موديل 1980، رغم ضخامتها التي تكاد تعرقل الطريق! هناك أشياء تكتسب رمزيتها مع مرور الزمن، لتصبح أكثر من مجرّد أدوات، بل جزءًا من الذاكرة الجمعية؛ تأمّل كيف تستعدّ الأسر لاستقبال شهر رمضان هذه الأيام، فتُزيّن المنازل بالفوانيس والشموع، وتفرش موائد الطعام التقليدية، بينما تكتسي الأزقّة في بعض الحارات بعقود الإضاءة، وتنشط البسطات الصغيرة التي تبيع البليلة والمأكولات القديمة، ملتفّة حولها الجموع رغم وفرة المطاعم الفاخرة. ولا تقتصر تلك الفعاليات على شهر رمضان فقط بل تمتدّ إلى مناسبات أخرى كالعيد السعيد وله مظاهرة ومباهجه، كما يتجلّى في تفاصيل حياتنا اليومية. فالمقاهي الحديثة بتصاميمها الفريدة قد تملأ الشوارع، لكن المقاهي الشعبية المستوحاة من التراث تبقى صامدة، يقصدها روّادها بحثًا عن الدفء والأصالة. إن الدول رغم نهضتها وتبنّيها لأحدث التقنيّات في أنظمتها وما تقدّمها من خدمات، لا تتخلّى عن الاعتزاز بماضيها، فتجده حاضرًا في معالمها وتقاليدها. الإنسان يطير بجناحين، يحلّق نحو المستقبل لكنه لا يستطيع التخلّي عن الماضي. فالمحطّات الأولى في حياته تظلّ نبراسًا يستلهم منه أين كان وإلى أين وصل. ورغم أن الوسائط الحديثة والذكاء الاصطناعي أصبحا جزءًا من عالمه، غير أن ذلك لا يلغي حقيقة ارتباطه العميق بجذوره. وإن كان ما يذهب يصعب إعادته مهما كان قربه كما يشير لهذا المعنى أبو العلاء المعري: أمْسِ الذي مَرّ على قرْبهِ يَعجِزُ أهلُ الأرْضِ عن رَدّهِ ويظلّ الماضي بما يحمله من عبق حاضرًا في وجدان الإنسان، يلهمه وهو يمضي قدمًا نحو المستقبل، كما تشعرنا تلك المظاهر في شهر رمضان المبارك، شهر الخير والعبادة. فمهما تقدّمت الحياة وتغيّرت العادات، يبقى رمضان، إلى جانب روحانيته وصفاء أيامه، مناسبة عظيمة للعودة إلى أشياء كثيرة رائعة، حيث تجتمع الأسر، وتزدان المجالس برائحة الذكريات، ويضيء الحنين ليالينا كما تضيئها الفوانيس. وقد قال الشاعر المصري محمود حسن أسماعيل عن رمضان: يا نفحة الرحمن في زمن التقى وسناءُ نورٍ في حنايا المسجد