
في عام 1935، وفي أحد أحياء مدينة الهفوف بالأحساء، وُلد طفلٌ سيُصبح لاحقًا واحدًا من أبرز العقول التي شكلت الفكر العلمي والثقافي في المملكة العربية السعودية. كان هذا الطفل الذي نشأ في بيئة متواضعة، يُظهر منذ صغره ذكاءً فائقًا وذاكرة حادة، بالإضافة إلى حضور ذهن فائق وقدرة على التحليل الدقيق والبديهة السريعة. لكن ما الذي جعل هذا الطفل، الذي لم ينعم بصحبة أبيه طويلاً الذي توفي وهو في السابعة من عمره، أن يُصبح واحدًا من أعظم العلماء والمثقفين في عصره؟ الإجابة تتجسد في كتاب «العالم الجليل راشد المبارك: ما بين تعدد المواهب وموسوعية الثقافة، وشموخ الانتماء» للكاتب منصور بن عمر الزغيبي، الذي يسرد رحلة هذا الرجل الاستثنائي. فيعرض ليس فقط سيرته الذاتية، بل مسار حياته الغني الذي مهد له الطريق ليصبح عالمًا فيزيائيًا موسوعيًا، وأديبًا ذا رؤية فلسفية، ويُعتبر أحد الشخصيات المؤثرة في المجالين العلمي والثقافي. في مقدمة الكتاب، يروي الزغيبي أن علاقته بالعالم الجليل راشد المبارك بدأت أثناء دراسته في المرحلة الثانوية، حيث أُعجب بجانبه الإنساني المميز واحتوائه الذكي لكل من حوله. كان الدكتور المبارك يتميز برقة طباعه، وعذوبة روحه، ولين جانبه، مما جعله شخصية محبوبة وقريبة من القلوب. ولا شك أن هذه الصفات الفريدة وغيرها كانت الدافع وراء شغف الكاتب بتوثيق حياة هذا الرجل الرائد في مجاله. في صفحاته الأولى، ستجد نفسك مأخوذًا بأسلوبه السردي الجذاب الذي ينسجم بسلاسة مع عمق المحتوى. مع كل صفحة تقرؤها، تشعر وكأنك أمام عمل يتجاوز كونه مجرد توثيق لحياة الدكتور المبارك، ليصبح رحلة فكرية وإنسانية تكشف كيف يمكن لشخص واحد أن يجمع بين مجالات تبدو متباعدة، مثل الفيزياء والشعر، العلم والفلسفة، وبين انشغالات الحياة اليومية وعمق التفكير. فالكتاب يروي طفولة راشد المبارك في الأحساء، حيث نشأ في بيئة تجمع بين التراث العربي والهوية الإسلامية. كانت مراحل عمره الأولى مليئة بالتساؤلات والتأملات، وهو ما دفعه للسعي نحو التعليم العالي، ليصبح لاحقًا أحد أعلام الفيزياء في المملكة. لكن الدكتور المبارك لم يكتفِ بأن يكون عالمًا فيزيائيًا فقط؛ بل كان قارئًا نهمًا للأدب والفلسفة، وشاعرًا ذا رؤية إنسانية. يذكر الكتاب أيضاً ما يحمله الدكتور راشد المبارك لهمّ الإنسان في قلبه وعقله. كان يتحدث دائمًا عن أهمية المحبة والتفاهم في بناء المجتمعات، ويرى أن الكراهية هي العقبة الكبرى أمام التقدم الإنساني. ركز في كتاباته وأعماله على فلسفة التسامح والتعايش، كما في كتابه «فلسفة الكراهية: دعوة إلى المحبة»، الذي عكس رؤيته الإنسانية العميقة. ويشير كذلك إلى أبرز ما كان يُميز الدكتور المبارك في علاقته مع المجتمع من حوله وبالأخص طلبته وهو رؤيته الفريدة لدور الطالب في العملية التعليمية. كان يقول دائمًا: «كنت أكرر على طلبتي أن الطالب الجيد يعلم أستاذه»، معبرًا بذلك عن قناعته بأن التعليم عملية تبادلية، وأن كل تفاعل مع طلبته كان فرصة للتعلم. هذا الفكر يعكس تواضعه العلمي ورؤيته الشمولية للتعليم كجسر لبناء المعرفة والنقاش الهادف. كما لا يغفل أيضًا رأي الدكتور المبارك في الشخصيات الأدبية مثل نزار قباني وعبدالله القصيمي. كان يتمتع بتوازن بين النقد والاحترام، فيعبر عن آرائه بموضوعية تشجع على الحوار والنمو الفكري. كرأي المبارك في المتنبي، الذي اعتبره ليس مجرد شاعر، بل رمزًا للصراع الفكري والتأمل في معاني الحياة. ورأى أن تفرد المتنبي يأتي من قدرته الفائقة على فهم النفس البشرية ورؤيته المتميزة للكون، وتعبيره عن ذلك تعبيراً متفوقاً. كما يحتوي الفصل الثاني من الكتاب على مجموعة من الرسائل والردود التي أبحرت في فضاء الفكر والحوار، حيث كان الدكتور راشد المبارك نجمًا لامعًا في سمائها. فيظهر من خلالها عمق تفكيره، وسعة اطلاعه، وقدرته على إدارة النقاش بأسلوب راقٍ ومثمر، يعكس شخصيته المتفردة التي جمعت بين التواضع العلمي والطرح الفكري الرفيع. أما الفصل الثالث فاشتمل على عدد من المقابلات الصحفية التي أجريت معه - رحمه الله - والتي فند فيها العديد من التساؤلات التي كانت تشغل الأوساط العلمية والثقافية في المملكة وخارجها. في هذه الحوارات، كشف الدكتور المبارك عن آرائه العميقة في قضايا الفكر والفلسفة والعلم، وتناول موضوعات مثل دور العقل في النهضة الحضارية، وتأثير المعرفة على تشكيل وعي الإنسان، وأهمية النقد البنّاء في تطوير المجتمعات. وسلط الضوء على نظرته تجاه الحداثة والتقليد، مؤكدًا أن التقدم لا يعني القطيعة مع التراث، بل هو امتداد طبيعي له عبر قراءة نقدية واعية. لم تخلُ مقابلاته من نبرة تفاؤلية تجاه مستقبل الأجيال القادمة، حيث كان يرى أن الشباب هم صناع التغيير، بشرط أن يتسلحوا بالعلم والمعرفة، وينفتحوا على العالم دون أن يفقدوا هويتهم. وقد تميزت هذه المقابلات بأسلوبه الواضح والصريح، فلم يكن يتردد في التعبير عن قناعاته بحرية تامة، مع احتفاظه بأسلوبه الهادئ والمتزن. فعبر هذا الفصل، يتجلى للقارئ جانب آخر من شخصية الدكتور المبارك، حيث لم يكن مجرد عالم فيزيائي أو مفكر موسوعي، بل كان أيضًا إنسانًا مؤمنًا بضرورة الحوار والانفتاح، وشغوفًا بنقل تجربته إلى الأجيال القادمة، إيمانًا منه بأن الفكر لا يموت، بل يمتد عبر العقول والقلوب التي تتأمله وتستلهمه. ثم يتجه القارئ إلى الفصل الرابع، حيث جانب الإنتاج الأدبي والعلمي في حياة الدكتور راشد. فيُعرف بمؤلفاته وأشهر أعماله التي تركها -رحمه الله- للباحثين والمثقفين في المجالات والتخصصات والموضوعات المختلفة. فقد أثرى المكتبة العربية بعدد من المؤلفات القيّمة التي جمعت بين دقته العلمية ورؤيته الفلسفية العميقة، ومن أبرزها كتاب «هذا الكون.. ماذا نعرف عنه؟»، الذي تناول فيه أحدث التطورات والأفكار العلمية الكبرى، ودراسة ومناقشة أهم المسائل الفكرية. وكتاب «كيمياء الكم»، الذي قدم فيه دراسة معمقة حول المبادئ الأساسية لميكانيكا الكم وعلاقتها بالكيمياء، بأسلوب يجمع بين الدقة العلمية والطرح المبسط. كما أصبح الكتاب مقرراً للطلاب في جامعة الملك سعود وغيرها من الجامعات الأخرى. أما في المجال الأدبي والفكري، فقد برز الدكتور المبارك بكتاب «شعر نزار بين احتباسين»، حيث تناول شعر نزار قباني من منظور نقدي وفلسفي. وأكد الدكتور راشد من خلال هذا الكتاب أن شعر نزار يفتقد لميزات الشعر الحقيقي، حيث تحدث عن العيوب التي رآها في أعماله، ومن أبرزها – حسبما قرره – أحادية البعد الشعري التي تجعل شعره محصورًا في موضوعات محددة، وابتذال الفكرة والمعنى الذي يقلل من القيمة الأدبية لنصوصه. إذاً، يبرز منصور الزغيبي من خلال تأليف هذا الكتاب سيرة الدكتور المبارك، العالم النبيل والنموذج الفذ الذي جمع بين العلم والأدب، والفكر والفلسفة، وترك إرثًا زاخرًا بالأفكار والقيم الإنسانية النبيلة. الكتاب ليس مجرد سرد لتفاصيل حياة شخصية مميزة، بل هو دعوة للقارئ للتأمل في مسيرتها، وللاستلهام من تفاصيلها وجهود المبارك في نشر العلم والمعرفة، ومحاولة السير على نهجها في السعي المستمر لتطوير الذات وخدمة المجتمع.