
العزلة الاختيارية التي اختارها الشاعر / خالد بن عبد الله الغانم لنفسه لم تكن – في الحقيقة – الا عزلة افتراضية داخلية (بينه وبين نفسه) بما يشبه الخلوة مع النفس, وليست عزلة حسية خارجية , تفصله عن مجتمعه أو محيطه الذي يعيش فيه, والا لاختل التوازن الفعلي الواقعي بين الطرفين: الفرد والمجتمع, وأصبح كل منهما بمنأى عن التأثر بالآخر, أو التأثير فيه , ايجابا أو سلبا. هكذا هم الشعراء دائما , وهذا ديدنهم, وطبيعتهم الانسانية التي تجعل منهم جزءا لا يتجزأ من مجتمعاتهم التي يعيشون فيها, في أفراحهم وأتراحهم, في سعادتهم وشقائهم! وهكذا هو (الشعر) الذي اشتق معناه ومدلوله اللغوي أو الحرفي من (الشعور) والاحساس بالحياة , بجميع ما فيها من متناقضات. بدا لي ذلك واضحا حين اطلعت على ديوان خالد الغانم , الموسوم بـ (خلف قضبان الوحدة) الصادر عن (دارالمفردات ) للنشر والتوزيع بالرياض سنة 1427هـ. فقد ضم هذا الديوان بين دفتيه مجموعة من القصائد العمودية , وقلة قليلة من شعر التفعيلة ,والتي تنوعت أغراضها الشعرية فيما بين الغزل أو (الوجدانيات) والحكمة والوصف والنقد الاجتماعي , الموجه لبعض سلوكيات المجتمع , بقالب مرح أو ساخر أحيانا, وربما جنح بعضها الآخر الى شيء من (الرومانسية) ومناجاة النفس , واللجوء للطبيعة. وحسب التواريخ التي أرخ بها الغانم قصائده , في نهاية كل قصيدة منها على حدة فقد انحصرت تواريخ كتابته لها في خمس سنوات تقريبا, ابتداء من سنة 1423هـ حتى تاريخ طباعة هذا الديوان ونشره سنة 1427 هـ أو ما قبله بقليل. وكانت أولى القصائد التي تصدرت صفحات الديوان تلك القصيدة المعنونة بـ (ريح العشق) وهي قصيدة وجدانية من (البحر البسيط) , يقول في مطلعها: قلبي الفراشة والمصباح عيناكِ لم يصطل القلبُ نار الحب لولاكِ لا بد للقلب أن يغنى بنار هوى فالعود بالحرق يهدي طيبه الزاكي أجل! هكذا يتلذذ العشاق بآلامهم وحدهم! فالعود بالحرق يهدي طيبه...نحن من حولهم لا نشعر بما يشعرون به مباشرة , لكن الشعراء منهم حين يعشقون فانهم يتألمون شعرا , فنتألم نحن – بدورنا- لهم , وحدهم الشعراء الذين تتلبسهم هذه الحالة النفسية , التي تنفرد بهم عما حولهم, بخلاف أولئك العشاق الصامتين, الذين يحبون ويعشقون بصمت, وينصرفون أو يحجمون عن التعبير للناس عن حبهم شعرا, وشتان ما بين شاعر عاشق, وآخر صامت! وقد صدق شوقي حين قال ذات مرة في بيته الشهير: أنتم الناس أيها الشعراء. ولعل هذه الوحدة أو العزلة المفترضة , وما ينجم عنها من انفعالات, داخلية أو خارجية كان لها نصيب من مسمى الديوان (خلف قضبان الوحدة)بحيث تكون أحد مفاتيح فك رموزه , لكون عنوان الديوان هو البوابة الرئيسة للولوج الى قصائده , وهو – أي العنوان – أول ما تقع عليه عين القارئ من ديوان مكتوب أو مقروء. وهناك بعض القصائد الأخرى التي ضمها الديوان اتسمت أجواؤها بطابع نقدي اجتماعي أو سلوكي, أو ربما تعامل معها الشاعر بأسلوب ساخر أو فكاهي, مثل قصيدة (الوظيفة) وهي عبارة عن قطعة شعرية تقوم على الصورة الشعرية المكثفة جدا , جاء فيها قوله: سألته: موظف أم طالبٌ؟ فقال لي: موظفٌ فقلت: ما الوظيفةَ؟ فقال لي: وظيفتي: البحث عن وظيفة. وهناك أيضا – في مقابل ذلك – قصائد أخرى قد تكون خليطا أو مزيجا من الوصف والحكمة والتدبر التي يهدف الشاعر من ورائها الى ارسال رسائل ذات مضامين انسانية معينة , تصف شعوره تجاه الناس أو المخلوقات والحياة من حوله , مثل قوله في قصيدة (فرار): فررت من الخلقِ للخالقِ أنخت على بابه خافقي تلوذ الطيور بعرض السماء فتعجز عنها يد الراشقِ أفر له مثقلا بالهموم فيلقي همومي من عاتقي