أسايرني أم سايرته؟ وهم الوقت.

لكل شأن وقت، فلحين المولد لحظة، و لرحلة العمر دهر، و لموعد الموت عمر. الوقت ثمين، و اللحظة نفيسة، الوقت في الواقع هو الحياة بحد ذاتها، فما هي الدنيا و ما هو العيش بلا مفهوم الوقت؟ المفهوم الذي تم التداول و التشاور فيه على أصعدة متباينة، كتلك العلمية و النفسية و الأدبية و كذلك الدينية. علمياً، الوقت و كما وصفه الفيزيائيون، هو التقدم و التغير الظاهر للأحداث من الماضي إلى المستقبل، بمعنى أنه سلسلة التطور الزمني للأحداث. النظريات المتعلقة بالوقت تتضمن تلك التي اقترحت طرقاً متعددة لتنظيمه و الاستفادة منه، كقاعدة ٨٠/٢٠ القائمة على مبدأ عالم الاقتصاد الإيطالي فيلفريدو باريتو و التي تقول بأن البعض قادر في ٢٠٪ فقط من وقته بأن ينجز ٨٠٪ من الأمر المطلوب، و هناك من يضيع ٨٠٪ من وقته في إنجاز ٢٠٪ فقط من الأمر المطلوب. حيث لاحظ باريتو أن ٨٠٪ من ثروة إيطاليا يمتلكها في الواقع ٢٠٪ فقط من السكان. المبدأ الذي صاغه بناء على هذه الملاحظة يمكن استخدامه في عالمنا اليوم كأداة نافعة في تحديد و تحليل الأولويات و تحقيق الأعمال بكفاءة عالية، حيث أن ٨٠٪ من النتائج تنتج عن ٢٠٪ من الأسباب. نظرية أخرى هي تلك القائمة على قانون باركنسون و الذي يقوم على مبدأ أن العمل يتوسع لكي يملأ كل الوقت المتاح لإنجازه، إذاً، هذا المبدأ يدعو إلى عدم تخصيص وقت أطول لتنفيذ عمل ما. صاحب هذه النظرية هو سيريل نورثكوت باركنسون، و هو مؤرخ بحري بريطاني، و أحد أهم باحثي مجال الإدارة العامة. المقصود بمبدأه أنه و على سبيل المثال إذا منحت نفس المهمة لشخصين مختلفين، و أعطيت أحدهم مهلة ٤ ساعات لإتمامها، بينما أعطيت الآخر مهلة ساعتين فقط، فالشخص الذي لديه ٤ ساعات سيستغرق كل هذا الوقت و ربما أكثر لإتمام المهمة بنفس الجودة التي حققها الشخص الذي امتلك ساعتين فقط. تكثر الدراسات و تتعدد الأساليب و تختلف النتائج، و يبقى مفهوم الوقت جدلياً و غير ملموس. على صعيد نفسي، فالعام الذي نمضيه مع من نحب يمر كاللحظة، و اللحظة في بعدهم تمر كالعام. شعورنا بمرور الوقت مرتبط ارتباط وثيق بجودته و بمحتواه و مضمونه. استمتاعنا باللحظة المحببة يجعلها تبدو و كأنها تنقضي على عجل، لكوننا لا نولي في حينها اهتماماً للزمن، بينما اللحظة الغير محببة تبدو و كأنها تنقضي على مهل لانشغالنا في حينها بثقل الشعور السيء الملازم لها. إذاً، الوقت لا يتحول أو يتغير حقيقة، إنما هي أحاسيسنا التي تتملكنا في تلك اللحظات و الدقائق و الساعات ما تجعل الوقت يبدو و كأنه ذلك الرفيق العنيد، نحبه لكنه يسري باللحظة الهانئة كلمح البصر، و يعبؤنا باللحظة الحزينة كعدو مُصر. الوقت مقترن أيضاً بالمعاني التي تلامس واقع التقدم في العمر، و لكل إنسان نظرة خاصة و شعور يراوده ما إن استذكر أنه يتقدم بالسن عاماً بعد عام و يوماً بعد يوم. هي سُنة الله في خلقه، و لا شك بأن النفس السوية التي اختارت بأن تحيا على أسس السلام و الصفو و الوداد و سعت على أن تكون هي الخير في نفسها و في تعاملها مع الغير، لا تكترث كثيراً و لا ترتاب من حقيقة التقدم في العمر. بل أنها تفتخر أيضاً بما مرت به من مراحل في هذه الحياة، و هي ترى نفسها الآن نسخة محسنة من ذات الروح، نسخة أكثر حناناً و لطفاً و أعلى استقراراً و حكمة.أدبياً، وصف كتاب و شعراء العالمَين العربي و الغربي الوقت بشتى الأوصاف. فالكاتب و الشاعر المصري أحمد شوقي سطر هذه الأبيات: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق و ثواني فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني أما المؤلف المسرحي و الشاعر البريطاني ويليام شكسبير قال: “الزمن بطيء جداً لمن ينتظر، سريع جداً لمن يخشى، طويل جداً لمن يتألم، قصير جداً لمن يحتفل، لكنه الأبدية لمن يحب.” الوقت من أثمن الأمور في حياة بني البشر، و قيمة الأشياء في نوعيتها لا في كميتها، و كذلك الوقت. أنت اليوم إذا أمضيت مع شخص عزيز لديك ساعة واحدة فقط لتستمع إليه حق الاستماع، بأذن صاغية و قلب حاضر و نية حسنة، تارة تقاسمه الضحكة و تارة تشاركه الدمعة، تضمد له جرحاً و تحيي فيه أملاً، فيغادرك و هو يشعر بأن حمله الثقيل قد أصبح أخف و فؤاده المرهق أصبح أكثر عذوبة، فقذ أهديته ما لا يقدر بثمن و قدمت له عطاء لا يضاهى، ألا و هو وقتك، و دقائق من عمرك لا يمكنك استردادها على هذه الأرض. أرى بأن الوقت كالمال، يمكنك إنفاقه في إفساد ذاتك و تدمير غيرك، كما يمكنك إنفاقه في إحسانك لنفسك و مساندتك لمن حولك، فلك الخيار. و كما قال الفيلسوف اليوناني ثيوفراستوس: “الوقت هو أثمن شيء يمكن أن ينفقه الإنسان.” من منظور ديني الوقت من أسمى النعم التي أنعم الله سبحانه و تعالى بها على عباده، و قد أقسم جل جلاله به في القرآن الكريم في عدة مواضع منها: {و العصر(١)}، {و الضحى(١) و الليل إذا سجى(٢)}، {و الفجر(١) و ليال عشر(٢)}، {و الليل إذا يغشى(١) و النهار إذا تجلى(٢)}، مما يؤكد لنا قيمة هذه النعمة و ضرورة حسن استثمارها و شكر المولى عليها. كما تطرقت بعض الأحاديث النبوية الشريفة إلى أهمية إجادة التصرف في الوقت و إدارة الزمن. أخيراً و ليس آخراً، الغاية من خلق الإنسان و من وجودنا في هذه الدنيا هي العبادة، هي ليست دار خلد و لا دار نعيم، بل دار انتقال. و أغلى ما نمتلكه في رحلة الانتقال هذه و كل ما نحتاج إليه للقيام بهذه العبادة بالشكل الذي ندعو بأن يتقبله رب العالمين منا هو أمر واحد: الوقت. * الرياض ، فبراير ٢٠٢٥م