في قصة (شظايا) من مجموعة د.عوض العولقي (سمّ الخياط) ..
استشراف للمشهد المأساوي الراهن في فلسطين وملامحه الإنسانية والنفسية.
في مجموعة (سم الخياط) للدكتور عوض العولقي قصة عنوانها (شظايا) تصوّر واقعةً نموذجيّة لما يحدث من ممارسات الاحتلال العدوانية في فلسطين؛ فمنذ البداية يُدخل الكاتب قارئه في دوّامة الموت بالصوت والصورة فيشير إلى الحلقة المفرغة لعملية القتل الممنهج، موسى بطل القصة - كما سيتبيّن فيما بعد- تعرض للموت من قبل بالطريقة ذاتها التي يتعرض بها الآن هو وأسرته عبر قصف الطيران لشقته، وهو العائد من السجن قبل سنين ناجياً من قصف مشابه لبناية السجن الذي كان أحد نزلائه، صورة بدت نمطيّة حيث يختلط الدم بالأنقاض ويرقد الضحايا من الأحياء والأموات الأباء والأمهات والأبناء والبنات تحت الركام، تسكن خيالاتهم أشكال الطيّارين الذين يقودون الأساطيل الجويّة المهاجمة وأصوات أزيز طائراتهم، و يتراءَون لهم في أشكال شتى من الثعابين السوداء التي تنفث سمومها وتمدّ خراطيمها في شكل مقذوفات متفجّرة تحمل الموت و الدمار حيث يتقاطع الواقع و الخيال وقد عمد الكاتب إلى الإلمام بتفاصيل ما قبل الواقعة حيث نصح الجيران الأسرة بالمغادرة، فجاءت ساعة الصفر في اللحظة التي تستعد فيه الأم وأسرتها للهروب من سطوة الموت حيث احتيست الأنفاس وبلغت الروح الحلقوم، وقد عمد الكاتب على لسان الراوي العليم على حشد كل الوقائع التي تتمخض عنها المفارقة فجعل حادثة القصف المميت التي ألمت بالسجن الذي قضى فيه الأب سنة وثلاثة شهور، وسقط فيه عدد كبير من الضحايا تأتي مباشرة بعد ولادة الأم بيوم، فاجتمع الضدّان انبثاق الحياة ومحاولة اغتيالها على صعيد واحد مكاناً وزماناً، ولكنها تعكس رؤية قارّة في الدهن؛ لأنها تكرّرت مرات عديدة من على مدى ما يقرب من عقدين من الزمان في مدينة غزة؛ وقبلها في المدن الفلسطينية ابتداء من النكبة عام 1948، لقد وقر في خَلد الراوي (الأنا الثانية للكاتب) تصوّراً معيّناً، ربما أقرب إلى أن تكون توثيقيّة لما يمكن أن يحدث في مثل تلك الوقائع التي تبثّها وسائل الإعلام إبان نوبات الاعتداء على مساكن المواطنين، لقد نسج مخيال الكاتب أحداث القصة على منوال النص القصصي القصير بجماليّاته المعروفة التي تلتقط التوتر بما تحتشد به اللحظة على اعتبار أنها فن الأزمة (فن الجماعات المقهورة) كما يطلق عليها منظرو دلك النوع الأدبي، وقد التقط الكاتب أكثر الوقائع شيوعاً حين صور الهجوم على المباني السكنيّة وتدميرها على رؤوس أصحابها من السكان الآمنين؛ وقد بدا واضحاً أن الشعر الذي يستبطن في رؤى وجدانية المأساة الإنسانية التي يتمخّض عنها عدوان المحتلين متعاطفاً مع ضحاياها فإن السرد يحاول أن يلتقط المشهد من زاويته الواقعيّة التي تهتم بالغوص إلى مكامن الشخصيات بوصفها تمثل أنماطاً اجتماعية وأن تغوص إلى مكامن بواطنها وتستقصي البعد النفسي فيها، وهو ما عمد الكاتب إلى فعله في نصه القصصي القصير، وربما استخلص رؤيته كما طرحها فيه مما هو متداول أو متخيّل و شائع ومألوف، غيرأنه قدّم الصورة المحوريّة الأساس التي يتقاطع فيها البعد الإنساني والمكاني والزماني ليتشكّل الجوهر مختزناً حقيقة الموقف المأزوم، حيث تنبثق لحظة التوتر القصوى، وهنا تبدو هذه اللحظة متجاوزة لخصوصية الموقف لتحتل بعدها المأساوي ولتتّسق مع المقولة الشائعة عن فن القصة القصيرة واصفةً إياها بأنها فن (الجماعات المقهورة) فهويقدم مشهد البناية بأدوارها الثمانية وقد انهارت فارتسمت على أنقاضها (اللوحة) المثال التي استوعبت حقيقة المحنة؛ فلم يكن الانهيار مقتصراً على البناية وحدها؛ بل بدا الحي كله أعجاز نخلٍ خاوية، ألمّ به الدمار واستولى عليه الانهيار، فالمشهد في مفتتح القصة لخّص الحالة الإنسانيّة برُمتها، وكأن الكاتب كان يرى بعيني زرقاء اليمامة، ويستشرف الآتي فيما تعيشه غزة الآن، وإن كانت قد شهدت مثله فيما مضى عبر حروب خمسة أو يزيد، ولكن ليس بمثل الهمجيّة التي نراها الآن، إنه استبصار يستشرف آفاق القادم، فقد رسم الكاتب المشهد بصدق في لوحة فنيّة استهل بها سرديّته، وإلى جانب الالتقاط الدقيق للمشهد الواقعي كانت هناك صورة موازية تخيّلها الراوي منداحةً في أفق البنت الكبرى (أنيسة) تستنطق الضمير الإنساني المغيّب للطيار وهو يقود سفينة الموت والدمار فتنقلب في مخيلة اختها الصغرى (مي) إلى حيّة سوداء تسعى برسالة الموت فيتداخل الواقع و الكابوس. لقد أراد الكاتب أن بصنع المفارقة من خلال اسم (أنيسة) الدال على نقيض الموقف المأساوي. ركّز الكاتب على فضاء الحدث اجتماعياً و نفسياً من خلال تقصّيه للأبعاد المكانيّة (تحت السلم) حيث الضيق وانغلاق الأفق والتجمع والعزلة وبالتالي كان ثمة تكثيف للإحساس بالأزمة، وقد استدعى من خلال الاسترجاع – في هذا الإطار – مأزقا آخر له أبعاد متعددة تمثّل في السجن الذي قصف بالطائرات، والظروف التي أدت إلى وقوعه في شباكه نتيجة لتهمة ظالمة، فغرق في الأزمة حدّ الاختناق، وكان استثماره لتقنية (الفلاش باك) في هذا الإطار الذي حشد له كل هذه العناصر؛ فإلى جانب العناصر الماديّة من حيث ضيق الأمكنة ومعطياتها النفسيّة عمل على تضييق الفضاء الاجتماعي والنفسي من خلال الاتهام الذي ابتلي به موسى رمضان الشخصية الرئيسة في القصة حيث اتّهم بسرقة اسطوانة غاز. لقد استدعى الكاتب على لسان الراوي حدثاً موازياً، وقد احتفل فيه بتفاصيل منتقاة وشخصيات أخرى، لعلها تدل على نَفَس روائي كان يمكن أن تتسع لها مساحات نصّية أوسع، ولكنه قصد من خلالها إلى تسليط الضوء على أبعاد جديدة في الأزمة قادته إلى أن يستطرد إلى بعد اجتماعي يمكن أن ينحو بالقصة منحىً آخر لعلّ الكاتب لم يقصد إليه حين أشار إلى البيئة الاجتماعية واصفا إياها بأوصاف يمكن أن تحمل على محمل آخر، فعلى الرغم من أنه استدعى عبر الاسترجاع حدثاَ يتعلق بالقصف العشوائي المدمر على النحو الذي تشهده غزة الآن فكان موازياً له حيث قصف البناية المكونة من الطوابق الثمانية ومبنى السجن، حيث اقتران الماضي بالحاضر وتكثيف الانطباع بالمأساة الماديّة والمعنويّة ،حيث أضيف الظلم المادي إلى الظلم المعنوي ممثّلاً في الاتهام الكاذب بالسرقة، إذ حُشر السجين المظلوم الذي حاول أن يثأر لكرامته مع مساجين آخرين فضلا عن المأساة الناجمة عن الصاروخ الحراري الذي فتك بأربعين من السجناء. كانت نجاة موسى ناجمة عن إيمانه القوي وثقته بمن يؤدّون الصلاة؛ فقد تعرّف إلى المساجين الأربعة الذين رافقوه في السجن وكلهم من الفدائيين المقاتلين؛ غير أن اللافت أنه جعلهم من أصحاب السوابق الذين اختاروا الحشيش والاتجار فيه وسيلة للعيش بعد أن ضاقت بهم السبل، واختار أن يكون أحدهم وهو( منتصر) شاباً ملتزما بالصلاة، أحبه واتخذ منه قدوة، وسمّى مولوده الجديد باسمه، وأضفى عليه العديد من الصفات المثالبة، ولعل القارئ لا يأخذ على محمل التسجيل والتوثيق عبارة ورد فيها إشارة إلى أولئك الذين شاع بينهم تعاطي الحشيش والتجسس إلا من باب التصوير الافتراضي لبيئة العالم القصصي الذي ينحصر في حيز محدود هامشي، وإلا فإن ذلك سيكون تناغماً مع ما يُراد له أن يشيع و ينتشر، ثمة استرسال لاتتسع له مثل هذه السردية في انتمائها لهذا الجنس الأدبي؛ فقد طالت عملية الاسترجاع واستوعبت حيزاً زمنياً واسعاً مكتظاً بالوقائع مؤهلاً لأن يستوعب حيزاً سردياً روائياً، فقد تناول فيه رسم معالم الشاب الثلاثيني الذي رأى فيه نموذجاً مثالياً، فسمى ابنه منتصر باسمه، وواضح أن هذه التسمية مختارة؛ فهي ذات مدلول يتناسب مع السياق، وفي حين اختصّ موسى ابنه منتصر بعنايته الخاصة لما وصف به من مزايا كانت الأم تساوي بين أبنائها جميعاً. وإذ يعود الراوي ليستأنف الرواية في سياقها الزمني الممتد بعد تلك العودة إلى الماضي يعمد إلى الإيهام بواقعية المكان فيذكر عمارة (السكاكيني) وهي عائلة فلسطينية معروفة منها الأديب خليل السكاكيني مشيراً إلى أنها بنيت في الثمانينيات ما يسلط الضوء على السّمة الواقعية وربما التسجيلية للقصة، واللافت في القصة أن التردد الذي راود الأسرة فيما يتعلّق بمغادرة الشقة في المبنى المهدّد بالقصف، صورة واقعيّة صادقة تعكس الحالة النفسيّة التي يعيشها الكثيرون ممّن أنذرهم المعتدون في هذه الأيام بضرورة المغادرة والاتجاه من الشمال إلى الجنوب، وكان تصويره لمشهد تداول ذكريات الأسرة التي استعادوها في اللحظات السابقة للقصف، وما نجم عنها من استكناه عميق لما تعاني منه كثير من الأسر في لحظات تستشرف فيها الموت فتتمسك بموقفها وجذورها على الرغم من إطلالات الموت الممثلة في الغارات الجوية المدمرة المستمرة. عمل سردي يقع على التخوم الفاصلة بين القصة القصيرة بما تنطوي عليه من لحظات التوتر، والرواية التي تختزن تاريخاً ممتداً من حياة الأسرة، تطل برؤى مؤلفها على مدى أوسع و أرحب.