المُدُن – كائنات حية.
من المتوقع أن يزداد عدد سكان العالم ليبلغ في عام 2050حوالي (10) مليار نسمة، ثم يتجاوز في نهاية القرن الجاري (11) مليار نسمة. وفيما مضى، وحتى عام 2009 كان من يقطنون المناطق الريفية أكثر عددًا ممن يعيشون في المناطق الحضرية، أما اليوم، فإن حوالي (55) في المائة من الشعوب يسكنون المدن، ومن المتوقع أن يبلغ عدد المقيمين في المدن ما يلامس سقف (70) في المائة من عدد السكان بحلول عام 2050. تعتبر المدن بيئات معقدة ومتشابكة، حيث يتطلب العيش في المدينة تأمين المتطلبات المعيشية الضرورية للسكان من المواد الغذائية والمياه والطاقة، وتأمين الخدمات الأساسية بشكل عام كالتعليم، والصحة، والنقل، وغير ذلك من الشؤون الحياتية الأخرى، وفي الوقت نفسه يتم إفراز النفايات بكافة صنوفها، العضوية، والورقية، والبلاستيكية، والزجاجية، مصحوبة بانبعاثات كربونية، وتلوثٍ بيئي بكافة أنواعه، مثل التلوث الهوائي، والتلوث المائي، والتلوث الصوتي. وتسمى هذه العملية المعقدة والمتداخلة بـ “الأيض الحضري” وهو وصف يُستخدم للتعبير عن العمليات الحيوية والكيميائية التي تحدث في ذات الوقت في المدن الكبرى، والمتوسطة، والصغيرة. في المقابل نشأ مصطلح آخر، مواكب لـ “الأيض الحضري” إنه مصطلح “الاستقلاب الحضري” الذي يُستخدم لوصف عملية التغيرات الاقتصادية، والاجتماعية، والديموغرافية، والبيئية، التي تحدث في نطاق المدن. كما يشير “الاستقلاب الحضري” إلى التحولات الهيكلية والتنظيمية التي تحدث بمرور الوقت، وتؤثر على المدن ومجتمعاتها بشكل عام. وتعتبر التطورات الزراعية، والصناعية، والتكنولوجية، والعمرانية، والتغيرات السكانية، والهجرات، والعوامل الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية الأخرى، كلها عوامل تلعب دورًا هامًا في عملية “الاستقلاب الحضري” وتترتب على هذه التحولات تغيرات في كل من البنية التحتية للمدن، والنمط العمراني المُطَبَّق، واستخدامات الأراضي، وأنظمة النقل، وتوزيع الموارد، وأساليب العمل والعيش في الحواضر والمدن. وهناك العديد من المفاهيم المهمة المرتبطة بمفهوم “الاستقلاب الحضري” يأتي في مقدمتها التخطيط العمراني المستدام، والتصميم الذكي للمدن، وتوفير البنية التحتية اللازمة لذلك، وتبني الطاقة المتجددة، واستخدام التقنيات الحديثة، وتطبيقات انترنت الأشياء، والاستفادة من البيانات المعالجة، وتحسين الخدمات الحكومية، وتشجيع المشاركة العامة، وتنمية الشراكات المجتمعية، وتعزيز التواصل والتفاعل بين الجهات المعنية. في عام 1964م، وفي سياق تطور علاقات الإنتاج المدنية، وتبلورها في أطر متقدمة، أدرك العالمان “ابل وولمان” و” جي وليم ويلسون” أن هناك قواسم مشتركة بين جسم المدينة، وجسم الكائن الحي، من حيث العمليات الميكانيكية التي تتم في جسم المدينة، ونظيرتها العمليات البيولوجية التي تتفاعل في جسم الكائن الحي، فتبنيا - لأول مرة - مصطلح “استقلاب المدن” مستعيرين مفهوم “التمثيل الغذائي” لوصف تدفقات الطاقة والمواد والنفايات داخل المناطق الحضرية. بعد ذلك تم تطوير مفهوم “التمثيل الغذائي الحضري” لدى الباحِثِين: “هربرت جيرارديت”، و”بيتر نيومان”، و”بول كوران”، في أواخر القرن العشرين، حيث وسعوا هذا “المفهوم” ليشمل – أيضا - الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للأنظمة الحضرية، على أساس أن المدن مثلها، مثل الكائنات الحية، كون هذه المدن تستهلك مُدخلات متنوعة من الموارد – العضوية وغير العضوية - كالمواد الغذائية، والطاقة، والخدمات الأخرى، وتفرز مخرجات مختلفة، مثل النفايات المادية، والانبعاثات الغازية. مع مرور الأيام، وتطور الحياة في المدن، وتحولها شيئًا فشيئا نحو التعقيد، تغيرت عناوين التوصيفات لكل من “الأيض الحضري” و”الاستقلاب الحضري “حيث توصل عالم الاجتماع “سي. كينيدي” وزملاؤه الباحثون في عام 2007، إلى مصطلح مُدمج أسموه «الاستقلاب المتغير في المدن» على أساس أن الاستقلاب الحضري هو (المجموع الكلي للعملية التقنية والاقتصادية والاجتماعية التي تجري في المدن، وينتج عنها النمو في جسد المدينة، وإنتاج الطاقة والتخلص من النفايات). سبحان الله العظيم، المدن كائنات حية تأكل وتشرب، وتشبع، وقد تصاب بالتخمة، وتترهل، كما أنها تُفرز، وتتجشأ، وتتنفس، وتختنق، وفوق كل هذا وذاك تترعرع، وتكبر، وتشيخ. فهل يُدرك المخططون هذه المفاهيم الفلسفية العميقة؟.