تركوا ما أشغلهم.. وانشغلوا ببعضهم.
يقول امبرتو إيكو: (إن أدوات مثل تويتر وفيس بوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من الشراب، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع... أما الآن فإن لهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. إنه غزو البلهاء). «البلهاء» كما يصفهم (امبرتو إيكو) ليسوا بمشكلة عادةً إلا في تلك الحالة التي يتحولون فيها إلى أدوات للتجييش الجمعي ضد غيرهم من الشعوب الأخرى، وطبعاً ضد «بلهاء» آخرين في الضفاف الأخرى المتعددة الذين يتولّون هم أيضاً ذات الدور المجنون في التجييش والتعبئة ضد شعوب تشاركهم اللغة، والدم، والمصير القومي المشترك. إنها ذات المأساة العربية في هواية خلط الأوراق، وإرباك الأولويات، والرقص على الجراح؛ فبدلاً من الانشغال بالقضية نفسها، وإدانة المجرم ذاته، فقد حصل أن نُسيت القضية ونُسي المجرم الحقيقي وحصل التفرّغ الكامل لممارسة تلك الهواية العربية في التجاذب والخصومة الفاجرة. لا أدري أي لعنة تصيب البعض حين ينشغل عن مأساة تحصل هنا أو هناك ليستثمر تلك المأساة في تفريغ ما ينوء به من كراهية؟! الانشغال بالكراهية ليس فقط من سمات «البلهاء» الذين يقصدهم امبرتو إيكو، بل إن مختلف القوى والتيارات وكذلك بعض الدول هي الأخرى يمكنها أن تمارس بلاهة الانشغال بتفريغ الكراهية عن قضيتها الأساس التي تدّعيها. التفكير البراغماتي الذي يتطلب (العمل حتى مع من تكره إذا كان هناك اتفاق في الغاية) معدومٌ تماماً عند تلك القوى والكيانات، وهذا ما رأيناه من هجوم على المملكة والإمارات في أتون هذه الأزمة، وكأن هاتين الدولتين هما من شنّ الحرب على غزة وليس إسرائيل!! التجاذب المؤسف على وسائل التواصل الاجتماعي بين الشعوب العربية يوحي بفشل ذريع للأيديولوجيتين: العروبية، والإسلاموية اللتين ظلّتا لعقود تمارس الحشد والتعبئة، وكلاهما تتخذان من القضية الفلسطينية مرتكزاً رئيسياً لتوزيع اتجاهاتها الفكرية، ومنطلقاً مهماً لبلورة المادة الأيديولوجية وبثها والعمل من خلالها، وكلتاهما أساءتا إلى القضية، وخدمتا إسرائيل بشكل أكبر بكثير مما يظهر من صخب الخطابات الرنانة، والظواهر الصوتية المزعجة. اليوم، ومع أجيال جديدة في حقبة وسائل التواصل الافتراضي، تستمر البلاهة ذاتها في قوالب جديدة تستخدم التقنية الحديثة استخدام المجانين، وتنتج خطاباتها الهشة هي الأخرى في زمن جديد، إلا أنها ذات المشكلة المزروعة في الجينات. الموضوع ليس متعلقاً فقط بالقضية الفلسطينية، وليست المسألة مجرد حسابات استخبارية على وسائل التواصل تدخل بين الشعوب لتمارس أجندتها في ضرب المشتركات، الموضوع واقعياً لا يخلو من كونه سياقاً ثقافياً ومزاجياً قائماً بذاته، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها؛ فلو التفتنا إلى أي قرية صغيرة هنا أو هناك، لوجدنا ذات الطريقة في الانشغال عن مشكلة ما في تلك القرية بتصفية الحسابات الخاصة المتراكمة بين أهلها. إنها ذات البدائية في الصراع، والشك، والكراهية، والحسد، والتي لا تزال حتى هذه اللحظة سمة من سمات (خير أمة)!