سيرة تمام الأكحل وإسماعيل شموط..

اليد ترى والقلب يرسم.

“اليد ترى والقلب يرسم” عنوان السيرة التي كتبتها الفنانة الفلسطينية تمام الأكحل عنها وعن زوجها الفنان اسماعيل شموط، تمثل هذه السيرة المكتوبة بشكل فاتن نموذجا معياريا لجيل النكبة الذي وعي الهجرة الفلسطينية وحفر في الصخر ليتبوأ مقعدا مرموقا في مجتمع النخبة الفلسطيني. تمام وإسماعيل ربما كانا أفضل حظا من غيرهما رغم قساوة الظروف. فكلاهما ينطوي على موهبة الرسم وليس كل إنسان موهوبا بالفطرة. وموهبة الرسم تنتج فنا عابرا للجنسيات واللغات خلافا لكثير من الفنون الأخرى مثل الشعر والقصص. فالآخران يظلان مرهونين للغتهما ما لم يجدا حظهما في الترجمة، ومن هنا فإن منتجهم الإبداعي كان جواز المرور السهل إلى كل العالم. ولعل الفنانين قد وعيا كونهما ملكا لشعبهما ولفنهما، فظلا يرفضان التأطير الحزبي مع أي فريق فلسطيني، رغم عملهما في دوائر منظمة التحرير الثقافية، وقد أضاف هذا إليهما الكثير من النقاء في الانتماء الوطني. والمدهش في إنتاجهما تواصله في أي مكان حلا فيه ومهما كان الزمان، إسماعيل مثلا كان يرسم حتى في غرفة النقاهة التي ينقل إليها بعد أي جراحة قلب مفتوح، من الجراحات الأربع التي أجريت له. إضافة إلى أن التجديد وخاصة في لوحات تمام التجريدية كان تجديدا منضبطا ومفهوما حتى لرجل الشارع العادي مما أتاح لهما الانتشار. والكتاب حافل بصور لرسومهما، مما أضفى عليه مذاقا جميلا وخصوصية آسرة. وبالمناسبة صدر أخيرا وبعد وفاة إسماعيل كتاب مذكرات له عن حياته في الكويت أيام الغزو الصدامي، أيامها عجز عن الرسم لهول المصيبة، فلجأ الى كتابة يومياته، احتفظ بها صديقه الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل، وقد أصدرها الروائي الكويتي سعود السنعوسي العام الفائت بعنوان “ أيام الغزو”. تمام الأكحل من عائلة يافية جاءت من المغرب العربي، ويعود نسبها إلي قحطان، أول من ملك أرض اليمن ولبس التاج، أمها من عائله السكسك اليافية التي تعود بنسبها إلى قبيلة سبأ. نشأت تمام في بيت عائلة الأكحل الذي تطل نوافذه على ميناء يافا لوالد جاهد في ثورة 1936، كانت تقرأ له مجلات الدفاع وفلسطين. وهي مجلات كانت تصدر في فلسطين آنذاك، وتذكر في طفولتها حضورها حفلات نهاية العام حيث تقدم المدارس عروضها، تتميز العروض الكشفية بموسيقي القرب حيث يلبس أعضاؤها التنانير الأسكتلندية في تأثر واضح بثقافة المستعمر الإنجليزيِ. موسم قطاف البرتقال كان بهجة المواسم حيث تتجمع أكوام البرتقال بإشعاعاته الذهبية، يُفرز البرتقال إلى حبات متساوية يتم تصديرها إلى أوروبا التي لا تزال تنسب البرتقال إلى يافا. بجوار بيت تمام يقع المستشفى الفرنساوي؛ حيث تلاحظ أن طائرة تنقل جرحى معظمهم أفارقة للعلاج فيه. لصيد الطيور موسم في يافا يخرج له الوالد والأعمام ليصطادوا الأرانب والبط البرية. ولما كان الصيد وفيرا فقد كان لكل منتجاته توظيف. تشرح لنا تمام كيف يتحول ريش الطيور إلى حشو الوسائد الوثيرة. ليافا سور حجري عال، تضم كنائس ومساجد. كان لوالدها صديقان يهوديان، أحدهما يهودي عربي كان حلاقا يقع دكانه في آخر سوق البلابسة. قبل رأس الوالد بعد أن أنهى الحلاقة قائلا: مبروك عارف. صار لنا دولة ولكم دولة. غضب الوالد غضبا شديدا قائلا بأي حق تأخذون أرضنا؟ رد الحلاق أقبلوا يا عارف هذا أفضل من أن تكونوا بلا شيء. غادر الوالد يتميز غيظا. الصديق الثاني كان العم فرانك اليهودي الألماني. تذكر تمام: جاءنا في ليلة كئيبة ونحن نتوقع الأسوأ. ووالدي على الجبهة. وقال لأمي أعطي عارفاً هذه الورقة. وقد كتب فيها: عارف.. الأرض أرضكم فلا ترحلوا. آخر أيامنا في يافا، تروي تمام: كانت أحوال الطوارئ قد طغت على حياتنا. والدي ميكانيكي ماهر يعنى بإصلاح الأدوات بكل أنواعها. وكثيرا ما كان الإنجليز يستعينون به في إصلاح أسلحتهم. هكذا يصلح بعضها ويستبقي الآخر بحجة أنه غير قابل للإصلاح ثم يصلحه ويهربه للمجاهدين. أصبح معروفا انه يصلح أسلحة المجاهدين مما عرضه للاعتقال عدة مرات. في ديسمبر 1947 هاجمت عصابات اليهود قرية يازور وقتلت عددا من أهلها، منهم خالتي آمنة التي لم نعرف عنها وعائلتها أي خبر. سعيد السكسك أحد الأقارب هاجم ومرافقوه دبابة صهيونية وقتل طاقمها لكن إصابته أدت إلي وفاته وعمره 23 عاما. انفجار هائل دمر مركز البريد الحكومي حيث يعمل المئات من الموظفين الذين تطايرت جثث سبعين منهم. الصهاينة دمروه عن طريق سيارة ملغومة. طرق أبوابنا مجاهدون غرباء يريدون ماء وطعاما. كانوا من البشناق (البوسنة) المسلمين الذين أتوا للدفاع عن فلسطين. خالتي أم أحمد فقدت ابنها للأبد ومعلومات أصحابه أن دورية للجنود البريطانيين أطلقت عليه النار. في 9 إبريل 1948 وقعت مذبحة دير ياسين التي أحرقت قلوبنا جميعا. في 14 أبريل قطعت الكهرباء عن يافا، بعد خمسة أيام قُطع عنا الماء. شيء لم يكن أحد يتحسب لوقوعه. وبدأ الناس يرحلون عطاشى. فتح عمي أقفاص الدجاج وأطلقها في الشارع لعل العطش لا يقتلها فأكلتها القطط والكلاب الجائعة. أختي الصغيرة ذات الأربعة أعوام تطلب الماء وصراخها يعلو على نباح الكلاب العطشى. لم تجد أمي ما تسقيها إلا ما تبقي في قارورة ماء الزهر المر. الطفلة لم تعد تطلب الماء. عاد أبي إلى البيت بعد تغيبه أشهرا مع المجاهدين وطلب منا التجهز للرحيل. في 28 إبريل صحونا فجرا على أصوات ضرب مخيف على الباب الخارجي، أعقبه انفتاح الباب على مصراعيه لتدخل مجموعة كبيرة من الجنود الصهاينة وهم يصوبون إلينا أسلحتهم، أُخرجنا من بيتنا. وتوجهنا مع الجموع إلى الميناء. تمكن والدي وعمي من قطع تذاكر على الباخرة المتجهة إلى بيروت. وبينما نحن ننتظر المركب ظهرت خوذ لمجموعة من الجنود فزغردت الناس ظنا أن الجيش الأردني قد وصل. إلا أن الجنود أطلقوا زخات كثيفة من الرصاص على حشود البشر فقتلوا عشرات الأبرياء. تدافع الناس إلى المركب الذي ينقلنا إلى السفينة. وبينما كانت إحدى الأمهات على الرصيف تناول زوجها الذي على المركب أطفالها وإذا بموجة قوية يسقط على إثرها الرضيع في الماء ويعلو صياح أمه. عندما أصبحنا على ظهر الباخرة كنا نرى الدخان يتصاعد من حارات يافا وصوت الانفجارات يمزق الآذان. هنا نلاحظ أن كل التواريخ كانت قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، وقبل الحرب التي قامت بينها وبين جيش الصهاينة، ومن المعروف أن الصهاينة قد بدأوا في خطة التطهير العرقي للفلسطينيين خلال الشهور الثلاثة التي سبقت خروج المستعمر الإنجليزي، وهذا يؤكد كذب الصهاينة الذين يدعون أن خروج الفلسطينيين كان بطلب من الجيوش العربية. من اللد إلي خان يونس يروي إسماعيل: حاصرنا الصهاينة وتحت تهديد السلاح وصيحات الجنود: علي عبدالله علي عبدالله (ملك الأردن) أخذنا في الابتعاد عن اللد. وما لبثنا أن سمعنا ممن لحق بنا على طريق الهجرة بمجزرة جامع الدهيشة. وحدة كوماندوز صهيونية يقودها موشي دايان صاحب العصابة السوداء على عينه العوراء وجهت مدفعيتها إلى اللد، وأخذت تطلق النار على كل شيء يتحرك في المدينة. قَتل خلق كثير. طلب الباقون الأمان باللجوء إلي الجامع. دخل الصهاينة مسجد دهمش وأبادوا من فيه، عددناهم فبلغوا 178 من أهل اللد. سرنا على طرق وعرة تحت تهديد السلاح. استبد بنا العطش. الأطفال يبكون جوعا وعطشا. سقطت أمي على الأرض لا تطيق حراكا. تمكنتُ من دخول بيارة (بستان) على الطريق. وجدت علبة معدنية ملأتها بالماء. وبينما أنا عائد إلى الوالدة إذ بجندي إسرائيلي يضع المسدس في رأسي، ويصرخ بالعربية: كُب ميّ...كُب مي، وهكذا خسرت كل الماء، بعض الأطفال ضاعوا من أمهاتهم وهم يبحثون عن الماء، تسللت مرة أخري وأحضرت علبة صغيرة من التنك فيها ماء، ركضت بها إلى أمي، أخذت الماء القليل لتعطيه لأخي توفيق ابن الخمسة أعوام.. لكنه وفي هذه اللحظة تماما فارق الحياة، لم تبلل شفتيه اليابستين قطرة ماء واحدة. دفننا أخي بأيدينا. لم يكن وحده، ففي التيه دفننا كثيرا من الشيوخ والعجائز والأطفال، لم يحتملوا العطش. بينما كنت أنقل الماء تبلل قميصي. جاءت امرأة تمتص قطرات الماء من القميص. وارتمي رجل على العشب الأخضر المتبقي على الأرض يمضغه عله يبل جفاف حلقه، وهكذا حتى وصلنا رام الله، أحضر الناس لنا ماء وطعاما ثم فتحوا لنا إحدى مدارس البنات. امتلأت الغرف بالناس. وبين الجوع والعطش توفي الطفل الرضيع ابن أخي الأكبر إبراهيم فكان ثاني من فقدت أسرتنا، وبعد أسبوعين بدأ أملنا في العودة إلى اللد يصبح سرابا. فقرر والدي أن ننتقل إلى الخليل حيث نزلنا ضيوفا على مسجد عباد الرحمن. هناك تفرقنا أنا وإخوتي نحمل الكاز على أكتافنا من الخليل نبيعه في القرى المجاورة. ثم قرر والدي أن يرسلني إلي خان يونس حيث يقيم صديق له من تجار الخضروات وكان مدينا له. حزن الصديق علي حالنا ونصحنا أن ننصب خيمة نأوي إليها على تلال خان يونس الرملية وقد كان. وانتقلت أسرتنا بأفرادها العشر، وعائلة العم أبو علي وعددهم أحد عشر وستة من عائلة العم أبي ياسين وخالتي وزوجها وابنهما الوحيد إلى الخيمة. حملتهم شاحنة من الخليل مرورا بطريق الفالوجة الخطر. في الليالي الأولى كنا ننام بالتناوب وغالبا ما كان أحدنا ينام جالسا وقد ضم ركبتيه إلى صدره لضيق المكان. ومضينا على ذلك أياما حتى جاءت لنا مؤسسة الكويكرز بعدد من الخيم فاستقلت كل عائلة بخيمة. وبالتدريج انتشرت الخيام حولنا ليتكون مخيم خان يونس. في إحدى ليالي الشتاء الباردة، كنا نائمين على قماش خيام بالية وملتحفين مثلها وقد اتخذت وإخوتي من الرمل وسائد، هبت عاصفة باردة مطيرة، اقتلعت خيامنا وبقينا في العراء حتى انتهت العاصفة.