من أسرار النضج النقدي.

مِن أكثر الوسائل التي ساعدتني على إظهار عملي النقدي بشكل أكثر تماسكا ونضجا في مؤلفاتي، أو أبحاثي العلمية المحكمة بمرور الزمن تفرغي التام للتأليف والبحث العلمي منذ أكثر من اثني عشر عاما، هذا التفرغ الذي لم أكن أريده قط، بل اُضطررت له اضطرارا؛ لأسباب كثيرة خارجة عن إرادتي، يصعب الإفصاح عنها في هذا السياق، ويقول الحق: «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم». إنَّ التفرغ يتيح للناقد القراءة العميقة في التخصص من جهة، وفي العلوم البينية التي تتقاطع مع تخصصه الدقيق من جهة أخرى، ويتيح له فنون التحبير والمراجعة والإتقان والتدليل على أرائه النقدية بمنطقية من جهة ثالثة. والسبب الثاني يظهر في سياق بعض التكاليف التي يكلف بها الأستاذ الجامعي تلاميذه، ومن ضمنهم محدثتكم ـ وهي نادرة جدا جدا، ولا تتجاوز تكليفين فقط في مرحلة الدكتوراة خاصة معي، والتي لا أفهم الغرض منها قسرا، أو لم أجد لها مراجع بحثية واضحة، أو لا أفهم ما يريده الأستاذ من هذه التكاليف؛ لأسلوبه الغامض وعجزه عن إيصال المعلومات للطلاب والطالبات، وفي ظل وجود وقت محدد بدقة شديدة وصارمة لتسليمه إلى بريد الدكتور الشبكي، فأحيلها إلى صديق أو زميل سابق من غير انتظار، ثم أقرأ ما يدونه الآخر الذي وثقتُ به، ثم أقرأ عمله، ثم أعدل عليه، وأعيد صياغته، ثم أضيف له بعض المراجع المكتظة من مكتبتي في كل المجالات، فأصبح عمله مرجعا رئيسا عندي؛ للصياغة منه والإضافة والتعديل من مراجع أخرى أملكها سلفا، فيظهر تكليفي جديدا تماما، وهذا جائز علميا بكل تأكيد، ومن ثم تنامت لدي طرق الصياغة والتعديل اللغوي ومهارات الكتابة البحثيّة عامة. أما السبب الثالث فيكمن في جرأتي على «نقد النقد» لكل ما يظهر أمامي أو أقرأه أو أستمع إليه، إن جرأتي التي أغضبتْ ـ أظن ـ كثيرا من أساتذتي الذين تتلمذت لهم جعلتني أنفر من الأسلوب الخاطئ في النقد، وأتمسك بالصواب، وأقول آرائي بكل وضوح احتراما للعلم والمنهجية والتطور العلمي للفنون والعلوم عامة، إنني لا أداهن أحدا في الخطأ ـ حسب وجهة نظري ـ، ولا أتعجل في إصدار الحكم قبل السماع والفهم، وعادة حُكمي يكون مُستندا على أدلة، أو ألزم الصمت. والسبب الرابع فيكمن في وجود حساباتٍ لي بأسماء رمزية؛ إذ يسمح لي الاسمُ الرمزي بالاستماع إلى المجالس العامية، أو الفصيحة معا بكل أريحية عن بعد، مثل: المنتديات سابقا، ومساحات تويتر حاليا، حيث إن الحضور لا يركز على اسمي، أو وجودي، أو جنسي، أو قبيلتي، أو دولتي، فلا يحرجونني بتوجيه أسئلة مباشرة لي، ومن هنا فلا يتحسسون من وجودي الناقد أيضا، أو يأخذهم الفضول إلى معرفة رأيي النقدي قسرا من البداية، فغالبا ما أدخل مستمعة، وأستفيد مِن الآراء حول شاعر ما، يتحدث عن قضية أو رأي غريب أو طرح جديد في أسلوبه أو لغته أو موقف له، فأعرف حينها كيف تفكر العامة، وما رأيهم حوله، وكيف يتلقون النصوص، ويناقشون أفكارها، ويفهمون معانيها على اختلاف مستوياتهم العلمية والثقافية وتنوع مذاهبهم وبلادهم أيضا. هذا الاستماع المستمر صقل موهبتي النقدية، ولاسيما إنني شخصية أكتب كل معلومة أفهمها في النقد والفلسفة والفنون منذ أكثر من عشرين عاما، وأسجل في دفاتر خاصة للنقد ما وصلت إليه من أفكار، ثم أفهرس الدفتر حسب نوع المادة، فقد تكون شعرية أو روائية أو نصوص مسرحية أو محاضرات فلسفية، وهكذا. من مزايا مناقشات (العامة) في الثقافة الأدبية الطرح الفطري والتلقي العاطفي الصريح جدا اللذان يدلان على التعبير عن الرأي بحرية تامة من غير قيود أو شروط أو حواجز أو تعقيدات مصطلحية، وهنا يحدث ما يُسمى بتلقي الصدق الفني، حيث يشعر الناس بالحب أو النفور أو الرفض تجاه نص ما، أو يشعرون بولاء تجاه كاتب بعينه أو شاعر بعينه؛ بسبب وجود الصدق الذي تسرب إلى قلوبهم بكل حرية ومن غير قيود من نصوصه أو أدبه عامة. إن البحث عن الصدق الشرارة الأولى التي تجذب الناقد الحقيقي إلى دراسة النصوص والفنون بأنواعها. إن الحب شغفٌ يساعد الناقد على الاستمرار ليل نهار في دراسة النّص اللغوي حتى يفك رموزه، ويصل إلى كنهه، فيظفر بالفوز عندما تسطع الحقائق أمام قلمه النقدي. ويبقى السؤال: لماذا لا نشعر بالأريحية التامة والسكينة الكاملة وتدفق السماع والتدوين بتركيز على الورق في ظل معرفة الناس لنا إن كان الناس يعرفوننا من قبل وأصدروا حكما علينا؟ *كاتبة وأديبة وناقدة في المسرح والأدب ــ حائل