الكاتب المغربي محمد حكمون في تقديم كتاب « هكذا تكلم البليهي » :
لو ظهرت نظرياته في الغرب لأحدثت ضجة كبيرة .

هذا الكتاب الذي بين يديك الآن يختلفُ عن كلِّ الكُتُبِ التي قرأتَها والتي ستقرؤها، فلا أبالغُ أبدًا إنْ قلتُ إنَّ كلَّ صفحةٍ من هذا الكتابِ يستحقُّ موضوعُها كتابًا كاملًا، وكلَّ جملةٍ أو فقرةٍ منه تستحقُّ وقفةً كبيرةً وتأمُّلًا مستحَقًّا. أمَّا قصتُه فقد بدأت منذ خمسِ سنواتٍ تقريبًا، عندما تعرَّفتُ على المفكِّرِ السعودي الكبيرِ إبراهيم البليهي عبرَ مقابلاتِه المتلفزة، ثمَّ تابعتُ ندواتِه في أكثرَ من دولةٍ عبرَ وسائطِ البث المتعدِّدة، قبل أن أتعرّف عليه ثانيةً من خلالِ كتبِه التأسيسيةِ الباهرة، وهي كتب غيرُ مسبوقة مِن مفكِّرٍ استثنائيٍ، فالعناوينُ التي أصدرَها البليهي والتي اعتمدتُ عليها بشكلٍ أساسي في هذا العمل كانت عناوينَ مثيرةً ومبهرة، مثل: “عبقرية الاهتمامِ التلقائي”، “الإنسانُ كائنٌ تلقائي”، “الريادةُ والاستجابة”، “حصونُ التخلُّف”، “الإبداع والاتِّباع”، و”حضارةٌ معاقة”… وكلُّها تندرجُ تحت عنوانٍ شاملٍ ومثير: “تأسيسُ علمِ الجهلِ لتحريرِ العقل”. كان اهتمامي بفكرِ البليهي اهتمامًا كبيرًا، فقرأتُ كلَّ ما استطعتُ الحصولَ عليه من كتبِه، حتى أُتيحت لي فرصةُ التعرُّفِ إليه عن قُربٍ عبرَ المؤسَّسةِ الناشرةِ لكتبِه، وما زلتُ أذكرُ أوَّلَ مكالمةٍ هاتفيةٍ أجريتُها معه، وكانت مكالمةً مطوَّلةً جدًّا في الوقتِ وقصيرةً جدًّا في الشُّعور! وحصل بيننا انسجامٌ كبير، فشعرتُ أنَّ هذا الرَّجلَ العظيمَ قد فهمني، بلْ وفهمَ أنَّني فهمتُه ربَّما. كنتُ قد تعرَّفتُ على أفكارِ البليهي ونظرياته غيرِ المسبوقةِ من خلالِ بعض مؤلفاته ومقابلاته، لكنْ أثناء حديثي معه عبر الهاتف؛ وجدتُ نفسي أمامَ إنسانٍ حقيقي، نادرِ النَّظيرِ في تواضُعه، ونُبله، وكرَمه، وما هي إلَّا دقائق بعد انتهاءِ مكالمتِنا؛ حتَّى طلبَ عبرَ الرَّسائلِ القصيرةِ عنواني في المغرب، ليُرسلَ إليَّ أهمَّ كتبِه وأحدثَها، وبالفعل، توصَّلتُ بها بعدَ مُدَّةٍ قصيرة، وكانت من أعظمِ الهدايا التي تلقَّيتُها، فعكفتُ على قراءتِها مُجدَّدًا، ثمَّ بدأتُ بالتَّدوينِ حولَ ما كان يستوقفني من أفكار، وإذ بي أجدُ نفسي قد كتبتُ مئاتِ الصَّفحات، بعد ذلك بدأتُ أرتِّبُ ما اقتبستُه من النصوص ترتيبًا مناسبًا، مستمتعا بذلك ومنبهرا بالمحتوى والأسلوب، وشعرتُ أنَّ ما يطرحه البليهي من أفكار، وما يعالجه من إشكالاتٍ ظلَّت عصيَّةً على التَّفكيك - يستحقُّ أن يُدوَّنَ ويُرتَّبَ - فكأنَّني وجدتُ وصفةَ الخلاص، وشعرتُ بأنَّ العالمَ كلَّه يحتاجُ إلى هذا الرَّجل، وأنَّ أفكارَه تستحقُّ أن تكون ضمنَ مناهجِ المدارسِ بمختلفِ مستوياتِها. نحن أمامَ رجلٍ خارقٍ توصَّلَ إلى نظرياتٍ لم يسبقهُ إليها أحد، مثل: “الإنسانُ كائنٌ تلقائي” و”العقلُ يحتلُّه الأسبقُ إليه” و”الريادةُ والاستجابة” و”التعلُّمُ الاضطراري مُضادٌّ لطبيعةِ الإنسانِ التلقائية”... كما ابتكرَ البليهي عددًا كبيرًا من المفاهيم، كلُّ واحدٍ منها يستحقُّ أن تُجرى حوله نقاشاتٌ ودراساتٌ وحواراتٌ وبحوث، ولو ظهرتْ نظرياتُه وأفكارُه في الغرب لأحدثتْ ضجَّةً كبيرةً، لكنْ يبدو أنَّ الأُممَ لا تتوقَّعُ وجودَ فكرٍ مُشرقٍ لدى العرب، وأنَّ لدينا مفكِّرًا استثنائيا ستتحسَّرُ البشريةُ كثيرًا على عدمِ الانتباهِ إليه في الوقتِ المناسب، وعدمِ التعاطي مع أفكاره بالعمق المطلوب والاستنارة برؤاه، إذ أمضى الرجل كل عمره متعمقا في مختلف المعارف الإنسانية وانتهى بتأسيس نظريات حاسمة، وإنتاج العديد من المفاهيم الفلسفية، التي يصلحُ كلُّ واحدٍ منها أن يكونَ عنوانًا ومدارًا لدراساتٍ واسعةٍ وأبحاثٍ متنوِّعة. وها أنا ذا الآن أُقدِّم للقارئ هذه الاقتباسات التي انتقيتُها من كتبِه، ومن مئاتِ المقالاتِ التي كان ينشرُها في الصَّحافةِ السعوديةِ والعربية، وفي مقدِّمتها صحيفةُ “الرِّياض”. وقد جعلتُ كلَّ صفحة تبدأ باقتباسٍ، وحاولتُ جعلَ الاقتباساتِ مكمِّلةً لبعضِها البعض، بحيثُ يبدو كلُّ اقتباسٍ امتدادًا للآخر، كما سعيتُ أن أجعلَه كتابًا جامعًا، زاخرًا، ومُلخِّصًا لأكبرِ قدرٍ ممكنٍ من أفكارِ البليهي، فهذا الكتابُ مُصمَّمٌ للقراءةِ ولا شيء غير القراءة، كما أنَّ أسلوبَ البليهي السَّاحر سيشدُّك لتُكملَ الكتابَ في جلسةٍ واحدة. هذا الكتابُ إذن يشملُ مُجملَ أفكارِ البليهي ومشروعَه العظيمَ الذي عنوَنه بـ: “تأسيسِ علمِ الجهلِ لتحريرِ العقلِ”، هذا المشروعُ الضخم الذي استهدفَ تحريرَ العقلِ البشريِ من الرُّكامِ الفظيعِ الذي تتوارثُه الأجيالُ تلقائيا في كلِّ المجتمعات. هذا الكتابُ سيُقرِّبُكَ من نفسِكَ، وسيُساعدُكَ على فهمِ الآخرين، فهو يتكلم عن العلم والمعرفةِ، والتعليم والمهارات، والأخلاقِ والعادات، وكيف يكونُ تعاملُك مع ذاتِك في التعلُّمِ والعمل، وفي العلاقاتِ الزوجيةِ والأسريَّةِ والاجتماعية، وفي مشكلاتِ النَّومِ ومع أوقاتِ الفراغ، وكيف تواجه الاضطراباتِ النَّفسيةَ وكلَّ ما يعرِضُ لك في حياتِك؛ فنظريةُ التلقائيةِ التي كشف عنها البليهي تستهدفُ تنويرَ النَّاسِ بطبيعتِهم التلقائية، وكيف أنَّهم يتطبَّعونَ في طفولتِهم بمختلفِ الأنساقِ الثقافيةِ بفاعليةِ البيئةِ التي ينشؤونَ فيها، وعن النتائجِ العميقةِ والحاسمةِ التي تترتَّبُ على هذا التطبُّع، وبذلكَ يعرفونَ كيف يقرؤونَ التَّاريخ، وكيف يفهمونَ الواقع، وكيف يُقيِّمونَ أفكارَهم وتصوُّراتِهم، وكيف ينظرونَ إلى العالم، ويعلمونَ أنَّ الإنسانَ بما ينضافُ إليه، وليسَ بما يُولَدُ به، فيفهمونَ أسبابَ اختلافِ الأفراد، وأسبابَ تبايُنِ الأُمم، ويُدركونَ أنَّ الأصلَ هو الاختلافُ؛ سواءً بينَ الأُممِ بمختلفِ أنساقِها الثقافية، أو حتَّى بينَ الأفرادِ داخلَ كلِّ نَسَقٍ ثقافي. إنَّ النظريات والأفكار التي توصَّل إليها البليهي، والتي ستجدُها على طبقٍ من ذهب في صفحات هذا الكتاب، تُجيب على الكثير من الإشكالات في نظريات المعرفة وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، كما أنَّها تُوضِّح السبب الرئيسي لعجز بعض المجتمعات عن الإفلات من قبضة التخلُّف؛ رغم كُلِّ ما تزخر به الدنيا من عوامل التقدُّم، كما ستجد في هذا الكتاب تفسيراتٍ فاتحة مُلهِمة لظواهر إنسانيةٍ مُعقَّدة؛ كانت خلال العصور وما زالت تُثير الكثير من الخلافات والجدل، وظهرت بشأنِها تفسيراتٌ مُتباينةٌ، ونظرياتٌ مُتضاربة. ستقرأ في هذا الكتاب عن ستيف جوبز، وحسن البنا، وبشار الأسد، ومهاتير محمد، وصدام حسين، وعدنان إبراهيم، وأيمن الظواهري، وستجد فيه إشاراتٍ إلى ابن رشد، وابنِ الهيثم، وابنِ النفيس، والخوارزمي، وجابرِ بن حيان، وعبدِ الرحمن السميط، وسليمان الراجحي، وإيلون ماسك. كما ستطَّلع فيه على قانونِ القصورِ الذاتي، وقانونِ الإنتروبيا، والتنافرِ المعرفي، وستطلُّ من خلاله على التاريخ وعلى مختلف الحضارات: الفرعونية، والبابلية، والكلدانية، والحثية، والفينيقية... وغيرِها. ستعرف في هذا الكتاب كيف يهدر العالمُ وقتَه ومالَه وطاقتَه في طريقٍ خاطئ، وستتعرَّف أيضًا على الغلطةِ البشريةِ الكبرى، كما ستطَّلع على أسبابِ الحروبِ والمذابحِ والمآسي البشريةِ التي تكرَّرت خلالَ التَّاريخ وما تزالُ تتكرَّر. ستعرف من خلال هذا المؤلَّف أسبابَ الصراعاتِ الحمقاء، وأسبابَ استمرارِ هيمنةِ الوعي الزائفِ، والتنافسِ المُدمِّر، كما ستتعرَّف على القرارِ العالميِ الأهمِّ الذي لم تتَّخذه منظمةُ اليونسكو بعد! ستعرف كيف تتحوَّل العيوبُ إلى مزايا عندَ المبرمجين ثقافيا، كما ستقرأ عن الخلفاءِ الأمويين، والعباسيين، والسلاطينِ المغول، والسلاطينِ الأتراك، والأيوبيين، والمماليك، وغيرِهم من الخلفاءِ والسلاطين الذين حكموا باسم الإسلام، وستقرأ عن إسرائيل، وجنوبِ إفريقيا، والمنظماتِ الجهادية. ستتعرَّف في هذا الكتاب على الدماغِ والعقلِ البشري، وستقرأ عن اللغةِ، والعاطفةِ، والحبِّ، وعن الإسكندرِ العظيم، والحشَّاشين، كما ستقرأ عن أهمِّ معضلةٍ تواجهُ العالمَ العربي! هذا الكتابُ لن يغنيك عن الرجوعِ إلى المؤلَّفاتِ الكثيرةِ والملهمة التي أصدرها البليهي، بل هو، دعوةٌ مباشرةٌ للتعمُّقِ في فكرِ هذا الرجلِ الاستثنائي. وما أستطيع أن أعدكَ به، في الأخير، هو أنَّ محتوى هذا الكتاب سيجعلكَ شخصًا آخر، وسيُغيِّر نظرتكَ لنفسكَ وللعالم! *كاتب من المغرب