محمد الماجد، شاعر سعودي استطاع أن يبتكر توازنًا فريدًا بين التقليد والتجديد في المشهد الشعري السعودي المعاصر. له لغة شعرية خاصة محتشدة بالموروث الأدبي والتاريخي تشي باتساع وعمق دائرته المعرفية والثقافية، وثراء قاموسه اللغوي. كتب العمود في بداياته ثم ما لبث أن تحول لكتابة الشعر الحر، وهو من جيل يعتبر الثبيتي رحمه الله أباه الشعري. يبصر المطلع على أعماله، عالما شعريا مسكونا بروح الحداثة، يفوح منه عبق التراث، ويستمد إلهامه من جذور تاريخية تأخذ القارئ ليجوب أزمنة ومعالم الجزيرة العربية، على سرج حداثي يجمع بين الأصالة والتجديد، والاطلاع الواسع على موروث الثقافات الأخرى. تشكل قصائده لوحات شعرية تحتفي بجمال اللغة وعمق الفكر. وهو شاعر متأن في الكتابة ومقل في النشر، صاحب مشروع شعري خاص يمزج بين الوعي التاريخي والتأمل الفلسفي العميق. صدرت له ثلاثة دواوين شعرية هي على الترتيب: «مسند الرمل»، «كأنه هو»، و «أسفار ابن عواض، سيرة شعرية للشاعر محمد الثبيتي رحمه الله». نفتح في هذا الحوار عبر اليمامة نافذة نطل من خلالها على عوالمه الشعرية، وما يحيط بها من ألق... •المطلع على قصيدتك يبصر ثقافة عالية، تتجلى فيها الأسطورة، والرموز التاريخية، جنبا إلى جنب مع الحداثة الشعرية، مما يحدونا للتساؤل حول أهم الروافد المعرفية التي استقت منها تجربتك؟ إذا كان ثمة روافد، وهذا فيما يتصل بعلاقتها بالكتابة تعتبر علاقة في حكم العلّة والمعلول بالمعنى الوجودي، وبالتالي فهي حقيقة لا يمكن القفز عليها، ولم تكن الكتابة بهذا الشرح الذي قدمته لتولد دونها، ولكنها أيضاً لم تكن يوماً جاهزة على الرف، ولحسن الحظ أنها ليست سلعة، وعليه فالروافد المعرفية للكتابة بالمعنى الذي أفهمه لا تملك أي طاقة تفجيرية في حد ذاتها، سواء كانت نابعة من الأسطورة، أو الرموز التاريخية كما أحببتِ تسميتها، أو الكدّ النقدي، أو -وهذا هو الأهم- القراءة الأحفورية التي تعني بكل حقل من حقول الحياة، بدأ بالشّعر ومروراً بالجغرافيا وليس انتهاء بخبر عابر في نشرة الأخبار اليومية، كل هذا صحيح حتى هذه اللحظة، صحيح وساكن أيضاً، لا حياة فيه، ولكن الصاعق الذي سيجعل من أي من تلك الآبار حريقاً هائلاً هو الشاعر نفسه، وفي الطريقة التي سيسلكها للبحث، في كيفية نظره للعلاقات بين الأشياء، وفي كونه-كما يدعي- مركزاً لكل تلك الحركة الدؤوبة، هذا في الوقت الذي لا أملك أن أثبت ذلك الادعاء لنفسي، فضلاً عن اثبات تلك الثقافة العالية التي أسبغتها علي، لعلك تحسنين الظن بي، ولا أملك إلا أن أشكرك على ذلك. •تقول “ تعلمت من سليم بركات الانفلات من وثنية الشكل”، و “ لم تكن لدي حصانة، ضد ما هو شعري أو فني بشكل عام”، فهل تؤيد نداءات بعض الحداثيين بهدم حواجز الشكل بين الأصناف الأدبية المختلفة؟ قلت ذلك، أعني فيما يخص وثنية الشكل والحصانة، لأبين مدى هشاشتي في مقابل الصلابة التي تتمتع بها المنحوتة الفنية، قصيدة كانت، أم لوحة فنية، أم طبق أفروديتي من أطباق إيزابيل الليندي، نزولاً حتى إلى تفاصيل جمالية بسيطة كتلك التي سننعم بها حال مشاهدتنا لأي مقطع لأحد أهداف ميسي القاتلة، لا يوجد إلى الآن من يستطيع مقاومة مثل هذا التيار الجارف، أما في ما يختص بهدم الحواجز بين الأشكال فلعل هذا المفهوم من المفاهيم الملتبسة، وربما الفضفاضة، التحزب للشكل يظل سلوكاً مقيتاً، فيما المجاورة بين الأشكال تعتبر فعلاً طليعياً من أفعال الحرية، هذا هو المستوى الأول لحديثنا فيما يخص هذا السؤل، أما المستوى الثاني إلى العاشر وحتى المائة فسيكون عن كيفية الوقيعة بين هذه الأشكال ودفعها للاحتراب، هذا العبث الجميل الذي سيجعل من هوية كل شاعر مختلفة عن الآخر، وستجعل كل شكل متحفزاً للمقاومة على الدوام، وبذلك سيخرج أفضل ما لديه، وهذا سيرجعنا مرة أخرى إلى أحضان الديالكتيك في أبسط صوره. •وصفت الثبيتي في أكثر من تصريح لك بالأب الشعري لك ولبعض مجايليك، فكيف يكون الشاعر وارثا ذكيا لمن قبله نعم فعلت، وما زلت أصر على هذا الوصف، ولكنه كان أباً حانياً، أعارنا نعل السليك لنشق به بركاً غير التي شقها، وقمراً نعقد به غرَّة الدجى على صباحات مختلفة عن صباحاته، ومواسماً لا تشبه الوقت الذي عاش فيه، جاز بنا الأعراف وذات العماد وأمرنا أن لا نلتفت للوراء، كان الثبيتي كالجوزاء تظهر لنا ليلاً على سبيل المسامرة، وتختفي نهاراً لنتعقب ظلّها دون طائل، وكأنه أراد أن يقول لنا: ابحثوا عن ظلكم، عن نهاركم الشارد بعيداً عني، ويبدو أن هذا ما فعلناه، الثبيتي قارٌّ في ذواتنا قرارَ الجمرة، وكذلك شعراء آخرين كثر، ونحن لسنا أكثر من موقد ضخم من الصلصال، بهذا المعنى أستطيع القول بأن الذكاء كان ذكاء ذلك الرائد الذي لم يكذب أهله حين احترق لا لشيء سوى ليشير لنا بأن سحابة الظلام ما زالت ثقيلة، ثقل بعير امرؤ القيس، وأن علينا أن نحترق لنضيء ولكن على طريقتنا الخاصة، أعتقد أني عبرت عن هذا الشعور مرة بقولي: كأنني من طيور النار محترقٌ دوماً، وأنَّ غنائي جدُّ مختلفِ •أصدرت مؤخرا ديوان (أسفار ابن عواض) الذي تناولت فيه السيرة الشعرية لسيد البيد محمد الثبيتي، رحمه وقدم له الدكتور سعيد السريحي، بمقال بعنوان “تغريبة الماجد”، جاء فيه: “هذه التجربة استنطقت من قصائد الثبيتي ما لم تقله تلك القصائد”، فما الذي أردت قوله من خلاله؟ هو كما ذكرتِ في السؤال، سيرة شعرية تتناول شعراً، وسرداً، السيرة الشعرية لشاعر عظيم اسمه محمد الثبيتي، لطالما شكلت تجربته محطة مفصلية لي ولكثير من مجايلي، ولا أدري لماذا، وأثناء حديث لي مع ناقدنا الكبير سعيد السريحي، كنت أقول له ما حملني على كتابة هذا العمل، عدا الدواعي الشخصية، هو يقيني التام بأن كل مفردتين متجاورتين من شعر محمد الثبيتي تخفي وراءهما برية من المفردات، من ذلك المضمر، والمعمى، والموارب، ولم تكن لي من مهمة سوى الذهاب بعيدا في التنقيب واستخراجها ثم استثمارها في تبيان ما انطوت عليه تجربة الثبيتي من كنوز. أما فيما يختص بالدكتور سعيد السريحي فمن الصعب عليَّ تصور أن هذا العمل كان سيخرج إلى العلن دون جهوده المضنية، مع الكتاب ومعي سوية، ودون أن أنوه بالتأكيد بالجهد الموازي الذي بذله نادي الطائف الأدبي في سبيل خروج العمل الى النور، وأخص بالذكر رئيس النادي الدكتور عطا الله الجعيد الذي اعتبره مثالاً للمثقف الواعي تماماً بخطورة وأهمية العمل الإبداعي. •هل ترى أن الكتابة عمل جماعي، أم فردي يجب أن يُمارس بعيدا عن الكيانات الأدبية؟ الاثنان معاً، وربما يكون هذا غريباً إلى حدٍّ ما، لذلك دعيني أوضح: في العمق عمل الكتابة عمل فردي دون جدال، وفي الإجراء هو يحتاج إلى روافع، وهذا ما اكتشفته متأخراً، وهنا يأتي دور الكيانات الأدبية، أي في مرحلة لاحقة لمرحلة ولادة النص وصيرورته واكتماله، وهذه المرحلة الأخيرة مرحلة جنينية من الواجب أن تكون في عزلة تامة عن العالم، مكتفية بعوالقها المشيمية العائمة في بحر من السوائل الكثيفة، لا علاقة لها بشيء سوى الطريقة التي ستخرج بها إلى الوجود، فإذا ما اكتملت وخرجت للوجود جرى عليها من قوانينه ما يجري على سواها من مواضيع تخضع عادة لمبادئ الإنتاج والتسويق، كل هذا بشرط أن تكون متوفرة على ما يؤهلها للعمل والأداء الخلّاق. •من هو المتلقي الذي يبحث عنه محمد الماجد؟ تمنيت لو يكون ذلك بسعة الأرض، ولكن من الواضح أن هذه الأمنية غير قابلة للتحقق، فهي ممتنعة تكويناً، ببساطة لأن فعل التلقي يُعد عملاً من أعمال الطبيعة بمعناها الفيزيائي ولا ينبغي أخذه إلى أبعد من ذلك، فإذا كان لنا أن نتصور بأن لماء الشعر سماءً محمّلة بالغيوم سيهطل منها كما يهطل السيل في كل مرة تملي عليه حسابات الأنواء ذلك، فليس لنا أن نتصوّر المتلقي سوى وادٍ، إما تلقّف ماء السيل فأخصب واخضرَّ، أو أن تربته لم تكن صالحة للفلاحة أصلاً، ولعلَّ آية كريمة كالتي وردت في سورة الرعد ستوجز لنا الصورة “أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها”. •ما أهم حدث شكل منعطفا مصيريا في حياتك كشاعر؟ الحدث الأبرز هو انضمامي لمنتدى الغدير الذي ضمَّ حينها كتيبة خليليّة من الشباب المتحمس في نهاية العقد الثاني من أعمارهم، أذكر منهم: شفيق العبادي، السيد محسن الشبركة، حبيب محمود، عبد الخالق الجنبي، عبدالكريم زرع... والقائمة تطول، حيث تفتحت عيناي أول ما انفتحت على تجارب تقليدية ناجزة، لا ينقصها الحسّ السارتري، كتبتْ القصيدة العمودية بشكل لافت، ثم سرعان ما غرق أكثرها في محيط أزرق من مسودات الحداثة، كان الأمر ممتعاً حدّ الغيبوبة، وكأنه إحدى تجارب الاقتراب من الموت، بحيث لا أستطيع أن أصف حالنا تلك في هذه العجالة. •هل تثق في النقد كمكمّل للإبداع؟ أثق في الإبداع أيّاً كان مصدره، نقداً كان أم شِعراً، لكن فيما يختص بالنقد فللأسف يفتقد بعض النقاد لشجاعة التخلي عن دروعهم النظرية، أقصد مناهج النقد عموماً، والمبالغة في استثمار (المصطلح) حال ذهابهم لمواجهة النص الشعري، كثرة الأسلحة عادة ما تشي بهشاشة الجسد الذي يحملها، فقط لنتخفف من هذه الدروع لنفسح الطريق للذات النقدية الفاحصة كي تواجه تضاريس النص ورياحه وهي عارية، دون قلق، أو توجس، أو ريبة، ولا مانع بعدها من العودة والتوسل بالمنهج ليعينها على تأويل ذلك الشلال العاطفي الفطري الذي بدأ يتدفق من أعماقها على تخوم النص دون وازع من عقل أو منطق، في الحقيقة لا يمكنني، إلا في أوقات قليلة ونادرة، تصور مهمة النقد خارج هذا الإطار. •السرد كأحد آليات التعبير، هل تعتقد أن بينه وبين الشعر منافسة؟ هناك غبطة، ورغبة في تبادل الأدوار، وهذه النتيجة التي تبدو وكأنها حكمة إغريقية، للأسف لا يسعني الادعاء بأنها من بنات أفكاري، وإنما هي ملخص لسؤال طرحه الروائي غابريل ماركيز في مقابلة تلفزيونية كان قد أجراها مع الشاعر بابلو نيرودا، حيث أفصح ماركيز لنيرودا عن أمنيته في أن يأخذ السرد الروائي إلى تخوم الشعر، فيما تمنى نيرودا في المقابل أن يأخذ الشّعر إلى تخوم السرد الملحمي، وقد هبَّ هواء عليل ومفعم بأنفاس الخزامى قبل أن يصرخا معاً: حسناً لنلتقي في منتصف الطريق. •في “عصر العولمة، والذكاء الاصطناعي”، كيف ترى مستقبل الشعر؟ تحدثت عن ذلك في ورقة شاركت بها مؤخراً في ملتقى حائل الأدبي، وتم نشرها هنا لديكم في مجلة اليمامة تحت عنوان (الشعر وأسئلة المستقبل)، والآن حال كتابتي هذه أن غارق في قراءة فصل عن شعريّة الروبوت من كتاب (متاهة الأزلي/ما بعد الإنسان: النقد والفلسفة) للصديق الدكتور عادل الزهراني، لا أدري إلى الآن ما إذا كان سيحملني على مراجعة ما كتبته أم لا، وذلك لبداعة ما يطرحه من توقعات وأفكار لا يمكنني سوى الوقوف عليه طويلاً، أنصح بقراءة هذا الكتاب فيما يختص بهذا السؤال أولاً، ثانياً: لا خوف على مستقبل الشعر فهو من سيستقبلنا فيما لو قررنا الذهاب إلى المستقبل، ذات الشعر الذي ظلَّ شاعر عظيم كأبي تمام يستقبل به القرون التي تلته واحداً بعد الآخر، منذ القرن الثاني الهجري وحتى الآن، دون أن يخفت أو ينال منه الزمن. •كشاعر سعودي، كيف تنظر إلى تسمية المملكة عام ٢٠٢٣، عام الشعر العربي؟ أنظر لهذه التسمية، وأكثر من أي شيء آخر، كاستحقاق تاريخي وجغرافي غاية في الأهمية، أراها استعادة لهوية طالما كانت أرض المملكة العربية السعودية الأكثر تعبيراً عن حقيقتها كونها، كما عبرت في وقت سابق، الأم الجينية لأغلب التراث الشعري وخاصة في نسخته البِكر، كما أراها في المقابل، تعويضاً ولو متأخراً للظلم الذي لحق بالحداثة على امتداد رقعة الجزيرة العربية، نتيجة للعبة المركز والأطراف، التي لم تكن الحواضر المدينية من حولنا لتلتفت إلى منجزنا الحداثي ربما، أقول ربما، بفعل وعي أدار ظهره للتراث والجغرافيا معاً، رافضاً الاعتراف لنا سوى بموهبة وحيدة وهي النفط، جاءت هذه التسمية إيذاناً برفع شيء من الحيف الذي لحق بنا، ورحم الله عمّنا طرفة بن العبد حين قال: وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهنّد هل هناك عمل جديد في الطريق؟ نعم، هناك عمل شعري، وأيضا هناك كتاب يتضمن مقالات عن الرواية، تتحدث عن علاقتي بالروايات التي قرأتها.