السعودية دولتان وليست ثلاث دول..

دعوة جديدة نحو إعادة تحقيب التاريخ السعودي.

أتى عليّ حين من الدهر, وأنا أتساءل عن أول من وضع الأساس لتقسيم التاريخ السعودي إلى ثلاث دول هي: الدولة السعودية الأولى, والدولة السعودية الثانية, والدول السعودية الثالثة, وعلى أي أساس بُني هذا التقسيم, ومتى كان ذلك؟ وعلى الرغم من أن الإجابة لم تكن غائبة عن ذهني بحكم قراءتي لمعظم ما ألّف عن الدولة السعودية في عهد الملك عبدالعزيز وبعده فإنني كنت توّاقًا إلى وجود دليل مكتوب في مقدّمات الكتب التي نَحَتْ هذا المَنْحَى في حدود اطلاعي, أو رأي محكيّ من باحث مدقّق أركن إليه في هذا المنهج. وحينما سألت عددًا من زملائي وزميلاتي المتخصصين في التاريخ السعودي عن أصل هذا التقسيم وأسبابه لم أجد الإجابة الشافية, بل وجدت أكثرهم يحمل التساؤل نفسه سوى الدكتور راشد بن محمد العساكر الذي أحالني مشكورًا إلى حديث له منشور في جريدة الشرق الأوسط اللندنية بتاريخ 26 صفر عام 1444هـ الموافق 22 سبتمبر عام 2021م, وفيه يشير إلى أن هذا التقسيم ظهر في عهد الملك عبدالعزيز (رحمه الله) على أيدي مستشاريه الذين كتبوا التاريخ السعودي بأسلوب موضوعيّ حديث, ومنهم: المصري حافظ وهبة, واللبناني فؤاد حمزة, والسوري خير الدين الزركلي, وغيرهم ممن عاصرهم أوتابعهم, وذلك على خلاف المنهج الحوليّ التقليديّ (نظام الحوليّات) الذي سار عليه مؤرخو الدولة السعودية الأوائل, ومنهم ابن غنام, وابن بشر, ومن سار على نهجهما, ثم أرفق الدكتور ابن عساكر صفحة من حديثه الطويل في الشرق الأوسط بلقاء له مُتَلْفَز مع المذيع البارع خالد مَدْخَلِيّ مضمّنًا إياهما في تغريدة له خلص فيها إلى هذا السؤال: "هل يكون الاتصال التاريخيّ للدولة بدون تقسيم تلك المراحل الزمنية أَوْفَق منهجًا لمرحلة تاريخية واحدة متصلة, كون الدولة السعودية قائمة منذ ثلثمائة سنة"؟ وهو محقّ في ذلك, خصوصًا وقد ختم تغريدته بقوله: "من الجميل أن نرى دراسات مستقبلية وأطروحات علمية حول ذلك" (@_alasaker1437) وقبل الدخول فيما نحن بصدده من الدعوة إلى إعادة تحقيب التاريخ السعوديّ يحسن بنا إعطاء فكرة بسيطة لمن لا يعرف أصول الأسرة السعودية الحاكمة, ولا بداية نشأة دولتهم, وللحقيقة والتاريخ فإن أسرة آل سعود تَمُتّ بأصولها إلى قبيلة بني حنيفة النزارية العدنانية, وهي أسرة صريحة النسب, عريقة في العزّ والسؤدد, تنفذّت في اليمامة بنجد منذ عهد مبكر, وفرع آخر من أرومتها تنفّذ في المنطقة الشرقية متّخذًا من مدينة الدرعيّة الواقعة على بعد حوالى ستة كيلومترات إلى الشرق من مطار الملك فهد الحاليّ بالدمام, وهي موقع أثري إسلامي أجرت فيه هيئة السياحة والتراث الوطني حفرية قبل عدة سنوات أسفرت عن وجود أطلال لمدينة حضارية دلّت آثارها المكتشفة في باطنها على أنها تعود إلى ما قبل 850هـ (الشكل1) وهذا التاريخ له صلة بآخر حكامها, وهو الأمير مانع بن ربيعة المريدي الذي غادرها عائدًا إلى اليمامة بناءً على استدعاءٍ له مع أقاربه من ابن عم له يدعى ابن درع, فأحسن هذا الأخير استقبال مانع المريدي, وأنزله في موضوعين من وادي حنيفة هما: غَصِيْبَة والمُلَيْبِيْد(), ومنهما تشكّلت مدينة الدرعية, العاصمة الأولى لآل سعود قبل الرياض, وحكمها وما حولها من ذريّة مانع المريدي تسعة عشر أميرًا بمن فيهم مانع المريدي نفسه طبقًا لما يورده الدكتور محمد العبداللطيف(), وذلك قبل أن تستقر إمارة الدرعية في منتصف عام 1139هـ/21 فبراير عام 1727م بصورة نهائية في محمد بن سعود بن مقرن, فهو الإمام الذي تُنسب إليه الأسرة السعودية الحاكمة, ومن نسله تعاقب أئمتها وملوكها حتى اليوم, وإليه يُنسب تأسيس ملكها الذي "بني منذ الوهلة الأولى على نصرة الإسلام, وتحقيق العدالة, وتطبيق الشريعة الإسلامية, وإقامة حدود الله, وخلاف ذلك من المثل الحميدة التي لا تزال مَرْعِيَّة من لدن أسرتنا السعودية الحاكمة حتى عصر الناس هذا"(). وستظل كذلك إن شاء الله وبحوله وقوته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد تعاقب على حكم الدولة السعودية من صلب الإمام المؤسس محمد بن سعود بن مقرن بطنان هما: أبناء عبدالعزيز بن محمد بن سعود, وأبناء عبدالله بن محمد بن سعود (الشكل 2). فمن نسل الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود, وهو البطن الأول: تولى الإمامة ابنه سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود, وهو الذي اكتمل في عهده المِهَاد أو البقعة الجغرافية للبلاد السعودية, ذلك المِهاد الجغرافي الذي تشكّلت منه المملكة العربية السعودية فيما بعد, وذلك بمدّ سيطرته (رحمه الله) على معظم أقاليم الجزيرة العربية, وأطراف بلاد الشام والعراق, وبعد وفاته في العام 1229هـ/ 1814م, تولى الإمامة من بعده ابنه الإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود, وهو الذي في عهده تكالبت عليه قوى الشّر والبَغْي التي تولى كِبَرَهَا حاكم مصر محمد علي باشا الذي شنّ حربًا لا هوادة فيها على أراضي الدولة السعودية انتهت بسقوط الدرعية, وتخريبها على يد ابنه إبراهيم باشا, وما تبعه من استسلام الإمام عبدالله, وإشخاصه, ومن معه إلى الأستانة ليعدم فيها (رحمه الله) في العام 1234هـ/ 1818م(), وبذلك خرجت الإمامة السعودية من فرع الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود(), ونُزِعَتْ عن الدرعية صلاحيتها لئن تكون عاصمة للدولة في قابل أيامها التي يخبئها لها القدر حينذاك, وربما أعطى هذا الوضع مبرّرًا لمن أطلقوا على تلك الحقبة من التاريخ السعودي مصطلح: الدولة السعودية الأولى. أما البطن الثاني فهو المتفرع من ذريّة الأمير عبدالله بن محمد بن سعود بن مقرن, وأول من تولى منهم الإمامة تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود, فهو المؤسس الثاني لحكم آل سعود, وبصورة أدق هو الباعث لحكمهم من جديد, وبعد مقتله غدرًا في العام 1249هـ/1833م تولى الإمامة من بعده ابنه الإمام فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود, وبعد وفاته في العام 1282هـ/1865م تولى الإمامة من أبنائه غير واحد إلى أن وصلت إمامة آل سعود نهائيًّا إلى الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود في حوالي عام 1306هـ/1888م وهو الذي تولاها في فترة عصيبة نتيجة لما مرت به إمامة آل سعود من أحداث بعد وفاة الإمام فيصل لا يتسع المجال لذكرها. ولما تضعضعت أحوال الإمام عبدالرحمن بن فيصل بعد معركة المليدا في عام 1308هـ/1890م, وأحداث حريملا التالية لها, غادر مقر ملكه في الرياض, ومعه أهله وأنصاره القريبين منه إلى جهة الأحساء عند بعض قبائل البادية في رحلة انتهت به إلى الإقامة في الكويت عند آل الصباح(). تجدر الإشارة إلى أن الإمام عبدالرحمن بن فيصل, وإن كان قد خسر الحرب فإنه لم يستسلم, ولم يخسر الإمامة بتنازله عنها لصالح العدو المنتصر عليه, بل ظل إمامًا له أنصاره الذين هاجروا معه, وأنصاره, وهم الغالبية العظمي الذين بقوا في نجد, وظلّوا على ولائهم للإمام عبدالرحمن, وعلى تمسّكهم بشرعية آل سعود, وظلّوا ينتظرون عودة إمامهم في أي لحظة, فكانت دولة آل سعود - حينذاك – أشبه ما تكون بدولة في المنفى, بدليل المحاولات المتكرّرة التي جرت على يدي الإمام عبدالرحمن نفسه في إحدى المرّات, ثم على يدي ابنه البطل الشاب الطُّلَعَة الأمير عبدالعزيز لاسترداد الرياض, وشرعيّة آل سعود المسلوبة. إلى أن كُلّلت المحاولة الرابعة منها بالنجاح حينما استطاع الأمير الشاب عبدالعزيز بالأربعين من رجاله المخلصين دخول الرياض, وقتل أميرها من قبل آل رشيد المدعو عجلان(), فدانت له نجد, وانبلج نور فجر جديد على البلاد السعودية باسترداد شرعية آل سعود الممثلة – حينذاك – في الإمام عبدالرحمن الفيصل الذي عاد إليها بعد أحد عشر عامًا قضاها في المنفى, وفي محاولات متكررة لاسترداد تلك الشريعة(). ولم يكن العبقري الفذّ الأمير الشاب عبدالعزيز بن عبدالرحمن في بواكير استرداده لشرعيّة آل سعود سلطانًا ولا ملكًا, وإنما كان جنديًّا مُسَخّرًا من الله تعالى لاسترداد تلك الشرعية, ولم يتولّ الأمير عبدالعزيز الحكم إلا بتنازل له من والده بعد إصرار شديد من الوالد على ذلك التنازل الذي قبله الابن على مضض, وعلى شرط أن يكون لوالده حق الإشراف والردع(), ويورد الزركلي صورة لذلك التنازل بقوله: "وفي اجتماع عام, حضره علماء الرياض, وكبراؤها في باحة المسجد الكبير [لعلّه جامع الإمام تركي] بعد صلاة الجمعة, أعلن الإمام عبدالرحمن نزوله عمّا له من حقوق في الإمارة [الإمامة] لكبير أبنائه عبدالعزيز, وأهدى إليه سيف سعود الكبير... وبذلك تمت البيعة الأولى لعبدالعزيز في سنة 1320هـ/1902م"(). وهكذا نلحظ أن الدولة السعودية الثانية لم تنقطع بالصورة التي انقطعت بها الدولة السعودية الأولى, وإنما ظلّت متصلة في أئمتها منذ تأسيسها على يد الإمام تركي حتى تسليمها للإمام عبدالعزيز, ممّا يعني أنه امتداد للدولة السعودية الثانية, وليس ابتداءً لدولة سعودية ثالثة. وعليه أقترح الترتيب لعقد حلقة نقاش, أو ورشة عمل يحضرها نخبة من المؤرخين السعوديين المتخصصين في التاريخ السعودي, ومن لهم اهتمام بالتاريخ السعودي من الكتّاب, وبعض المؤرخين المهتمين من خارج أهل التخصّص ليعيدوا النظر في تَحْقِيْب التاريخ السعودي: فإما البقاء على التحقيب المعمول به حاليًّا, وهو تقسيمها إلى ثلاث دول, أو إعادة تقسيمها إلى دولتين فقط للحيثيّات التي أوردتها في هذه المقالة, أو استمرارها دون تقسيم إلى دول منذ عهد الإمام المؤسس محمد بن سعود بن مقرن قبل 300 عام حتى اليوم, وإلى أبد الأبدين بحول الله وقوته ومشيئته. ولنا في ذلك أسوة بالدولة الأموية التي تلاشت وانقطعت نهائيًّا بعد إنعزال معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية بن سفيان وموته, وانتقال الشرعيّة من البيت السفياني إلى البيت المرواني بوصول مروان بن الحَكَم بن أبي العاص إلى الحُكْم, وظلّ اسمها كما هو: الخلافة الأموية أو الدولة الأموية حتى سقطت في عام 132هـ/750م على أيدي بني العباس, ولم يقل المؤرخون الأولون على طول باعهم في علم التاريخ: الخلافة الأموية الأولى, والخلافة الأموية الثانية. الإمام المؤسس محمد بن سعود بن مقرن الإمام عبدالعزيز بن محمد الأمير عبدالله بن محمد الإمام سعود بن عبدالعزيز الإمام تركي بن عبدالله (الباعث لملك آل سعود) الإمام عبدالله بن سعود (سقوط الدرعية وانقطاع حكم هذا الفرع) الإمام فيصل بن تركي الإمام عبدالرحمن بن فيصل الإمام سعود بن فيصل الإمام عبدالله بن فيصل الملك فيصل الملك خالد الملك عبدالعزيز الملك سعود الملك فهد (خادم الحرمين الشريفين) الملك عبدالله (خادم الحرمين الشريفين) الملك سلمان (خادم الحرمين الشريفين) الإمام المؤسس محمد بن سعود بن مقرن الإمام عبدالعزيز بن محمد الأمير عبدالله بن محمد الإمام سعود بن عبدالعزيز الإمام تركي بن عبدالله (الباعث لملك آل سعود) الإمام عبدالله بن سعود (سقوط الدرعية وانقطاع حكم هذا الفرع) الإمام فيصل بن تركي الإمام عبدالرحمن بن فيصل الإمام سعود بن فيصل الإمام عبدالله بن فيصل الملك فيصل الملك خالد الملك عبدالعزيز الملك سعود الملك فهد (خادم الحرمين الشريفين) الملك عبدالله (خادم الحرمين الشريفين) الملك سلمان (خادم الحرمين الشريفين) الشكل (2): فخّاريّات مكتشفة من موقع الدرعيّة الأولى بالمنطقة الشرقيّة . الإحالات (1) ابن بشر, عثمان بن عبدالله, عنوان المجد في تاريخ نجد, تحقيق: عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ, ط2, (الرياض: وزارة المعارف, 1391هـ/1971م), جـ2, ص9. (2) “أمراء الدرعية الثانية قبل تأسيس الدولة السعودية الأولى في ضوء المصادر المحلية” في كتاب: دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية, الدوريّة 23, (الرياض: جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية 1446هـ/2025م) تحت النشر. وانظر الجدول المرفق بالبحث نفسه. (3) الزيلعي, أحمد بن عمر, “فجر الدولة: الإمام محمد بن سعود ومبتدأ التأسيس” في مجلة العلوم الإنسانية والإدارية, المجلد 11, العدد2, (شقراء: جامعة شقراء رجب 1445هـ/ يناير 2024م) ص216. (4) ابن هذلول, سمو الأمير سعود, تاريخ ملوك آل سعود, ط1, (الرياض: مطابع الرياض, 1380هـ/1961م), ص ص 15-17. (5) جرت محاولة فاشلة لاسترداد ملك الأسرة على يد الأمير مشاري بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود الذي فرّ من أسر إبراهيم باشا, واختفى في سدير, ثم عاد إلى الدرعية, وبايعه أهلها, ولكن منافسه محمد بن مشاري بن معمر أمير العيينة ألقى القبض عليه وسلمه إلى عبوش (آبوش أغا) القائد التركي المقيم في عنيزة, فقتل مشاري, وقيل مات في السجن وبايع آبوش لابن معمر, انظر: ان هذلول, تاريخ ملوك آل سعود, ص ص 17 – 18. (6) الزركلي, خير الدين, شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز, (بيروت: دون دار نشر, 1390هـ/1970م), جـ1, ص68 وانظر الصفحات التي بعدها. (7) العثيمين, عبدالله الصالح, تاريخ المملكة العربية السعودية, ط3, (الرياض: دون دار نشر, 1418هـ/1997م), جـ2, ص ص 38-41, 49-55. (8) الزركلي, شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز, جـ1, ص128. (9) الريحاني, أمين, نجد وملحقاتها, ط5, (الرياض: منشورات الفاخرية, 1981م), ص129. (10) الزركلي, شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز, جـ1, ص128.