قراءة في قصيدة “تشريح لقطة غارقة” للشاعر أحمد الماجد.

العتبة تمظهرت العتبة كتركيب عجيب جمعت مفردات من حقول دلالية متمايزة إن التقت أحدثت نشازا لكنها في نص الماجد تجتمع فتخبرنا بمشهدية مغرقة في الصبابة والوفاء هزت الشاعر فانساب كطبيب جراح يشرّح تجلياتها. كان النص إذن غرقا في اللحظة أو ذهولا أو استغراقا في الإخبار عنها وترجمة محاميلها ومجاميعها فهل استطاع الشاعر نقل المشهد والمشهدية التي عاشها وهل استوفت الشاشة / اللغة قول الحدث أو الصورة وهل استوفى النص اللحظة وكان محيطا، هل لانت اللغة وأوفت بإحساسات اللحظة وإحساس الأنا الشاعرة فأزمنتها وضمنت ديمومتها. تلتقي في بلورة العتبة حقول ثلاث: العلمي والتقني واللغوي فيجتمع تركيب عجيب وعجينة فريدة في تأثيث اللحظة. فهل أوفت واستوفت فأحاطت وبلّغت فبلغت منتهاها وأغرقت المشاهد - لقطة - في جماليتها؟ الكتابة على كتابة أحمد الماجد صعبة، تفترض أن تجنّد لها السمع والبصر واللّب وهذا ليس انفعاليا او انطباعيا وإنّما موضوعيا يتجلى عند إنصاتك للنص وقراءته ويُصادق عليه النقد. إنّك وأنت تقرأ تغرق في الكلمة والتركيب والفكرة والاستيطيقا وكأني به يقول لست سقراطيا أجد الجمال في الطبيعة وما تمنحه ولست هيقيليا أجد الجمال في الفكرة بل كليهما وقد اجتمعا في عجينة مركبة، هذه الحقيقة أدركتها بعد مناورات عدّة في القصيدة. ينطلق من مشهدية ليصف جمال حبيبته اللانهائي ذاك الذي عجزت مقاييس الجمال عن تعيينه حتّى أنه بات يُحدّد بالكم اللامحدد وكأنني بعلم الكم لا يُحيط بهذا الجمال. جمال حبيبته كمّا وكيفا لا تطاله اللغة ولا تقوله أو إنها وإن قالت تظل عاجزة عن الإحاطة به واحتوائه وقوله. مؤكدا عجز اللغة يعلن أنه في حاجة إلى انزياحات نحو الحلم المغرق في التأويل. هو ذا حتى الحلم استحال عاجزا عن تفكيك جمال أنثاه لذا بات يطلب ملغزا محيطا بالموصوف. إن عجز اللغة عن نقل جمال الموصوف حتّم عليه اللجوء إلى المجاز، فاللغة التي تمحّلها الإنسان من أجل التواصل مع ذاته وغيره والعالم باتت عرجاء ترفع ساقا وتُغرق ساقا فإن هي قالت شيئا أهملت شيئا آخر . إن الأعلان عن محدودية اللغة هنا يُذكرني بمواقف فلسفية مثبتة لعرج اللغة، ذلك أنها لا تقول ما نقول وقد تقول ما لا نقول، هذا العجز دفعه إلى الاستنجاد بمتتالية من المرايا لربّما تُحيط بجمال أنثاه. بدا هذا الجمال من كلّ الجهات بل بدا متحرّكا لا تقدر اللغة بما هي مفردات ستاتيكية على متابعة ديناميكيته. نلحظ هنا الإغراق في تأكيد جمال أنثاه لتكون هذه الأنثى الكمال والانتهاء والمثال الأفلاطوني الذي لا يُدرك لكن الحبيب يُدركه ويدرك عجز اللغة عن احتوائه. المشهد أثار الشاعر وأثار روحه فتضاعف جنونه أضعافا وشهيقه ممّا زاد في ولهه وصبابته لنلاحظ البعد التناسبي بين إثارة الجمال أو الحبيبة وردة فعل الحبيب أو الشاعر. القصيد مفعم بالاستبدالات و الانزياحات التي صار معها الغناء أزرقا وسأجازف لأقول إنه يستعير لون البحر وهسيسه أو غناءه ليقول ثيابها، فما لون البحر إلا لون تلك الثياب التي ترتديها والتي كلما تحركت غنّت أو ترنّحت على جسدها فأحدثت هسيسا زاده هذيانا وأوقد إحساسه فكف عن الكلام وفتح المجال للصمت وانثال عرقه مما دفعه إلى مسحه بورق سحبه من حامل في شكل آلة موسيقية. بين الخيال والواقع يواصل ترجمة ما لا يترجم، ترجمة مشهد أو حالة أو كما قال لقطة التقطها فزجت به في دهشة وحيرة خلقت لدينا ضربا من الإدهاش والإندهاش. أفعم النص بالانزياحات الدلالية حيث فقدت الكلمات دلالاتها الحافة لتكتسي معنى جديدا يتناسب واللحظة ويتوافق وجمال الموصوف فالحيرة تمسح رأس المعنى والخشب يسكت في حضرة الجمال ومقياس النهار لم يعد الساعة بل القلب. لقد كفّ الخشب عن التآكل والنار تاكله والمدفاة صمتت عن الكلام استحياء من الجمال كما أن نوبات الغروب والشروق وهالتهما استحيتا أمام الجمال وعجزت عن تمثيله وهنا استغراق في تشكيل لوحة أو فسيفاء مغرقة في الجمالية زاد المطر في تسريع نبضات القلب وإثارة الدهشة والحيرة مما جعل حواس الشاعر تتسابق لنقل الجمال وقوله ولكنها ترتبك وهذا الارتباك يترجم عبر استبدالات تركيبية يصوغها الشاعر وتزيد القصيد جمالا فتارة تسبق شفتيه وطورا كفيه وأطوارا أخرى عينيه، غرقه ونفسه عن نفسه ولا تتبقى أمامه غير لغة العيون فهل بمستطاع لغة العيون الإحاطة بالجميل؟ متسائلا عن مدى إحاطة لغة العيون والنظرات بحبيبته يؤكد أن النظرة صحراء لا ماء فيها في حين أن الجميل ضارب في عمق الماء وهنا يمعن في تأكيد أن البصر قاصر عن الإحاطة. يتنقل الشاعر في الكشف عن مواطن الجمال في المحبوب من الروحي إلى أشيائها كعطرها الذي لا يمكن للأزهار أن تكشف عن حقيقته ومنه إلى جمالها الجسدي وهنا سأصمت إجلالا للشاعر. يستخلص شاعرنا أنه في حاجة إلى زجاج اللامعقول لنصادف انزياحا دلاليا مبهرا فكيف للزجاج أن يكون لا معقولا؟، في هذا تأكيد أن ترجمة جمال الحبيبة يفترض تجنيد الخيال والجنون وكل ضروب اللامعقول علها تستوفي قوله والإخبار عنه. ورغم ذلك يقر بأن جمال الحبيبة يتجاوز كل الحدود، يتجاوز اللغة والقلب وبالتالي القول ولا مناص من الاستنجاد باللامعقول وهو ما كان في هذه القصيدة. القصيدة تضمنت خروجا عن المألوف ومروقا عن المتداول، لقد تشكّلت لي كجنون ولا معقول إذ تحولت معه الأشياء الجامدة إلى أشياء تنتابها الدهشة والإرباك وكساها التفاعل فكفت عن الكلام و وقفت كالنهر استحياء منه وإجلالا له. لقد تشكل القصيد من حقول دلالية عدة وصور مغرقة في الخيال وكلّها ظلت قاصرة عن قول الجميل. كما الشاعر على أشياء الطبيعة صبغة أنتروبومورفية تحولت معها إلى ذوات تحس وتعبر وتندهش إزاء الجمال. ينتهي القصيد إلى كرنفال من الجمال وإلى إقرار مفاده عدم القدرة على الإحاطة بجمال الحبيب في تبدّلاته ولحظاته وتغيراته، عدم القدرة على متابعة تمظهراته وتجلياته الدائمة والمستديمة والمتواصلة، جمال يتأنق في كل مرة في صورة أشد من سابقتها فيُسارع الدهشة والإنفعال والإدهاش والارتباك والإرباك. القصيد بلغ منتهاه جماليا ولغويا وتعبيريا وتركيبيا وتصويرا فحَوى الكثير من الاستبدال والمجاز والإستعارة والمعقول واللامعقول والتعقل واللاتعقل، الخيال والجنون فشكّل لوحة لمشهدية أو لقطة فريدة وصاغ إستيطيقا فكرية وواقعية وزج بك في حقل هارمانوطيقي مهما قلت عنه لا تستوفيه. شكرا للشاعر على هذا القصيد المتفرد الفريد. *بروفيسور في الفلسفة ــ معهد حمام سوسة - تونس ــــــــــــــ تشريح لَقطةٍ غارقة. أحتاج وسائلَ أحلامٍ لا واضحةً كي أشرح كم أنت جميلةْ وحساءَ مرايا متتاليةٍ يغسل أقدام اللغة العرجاء لتقطع مشوارَ المليارِ جنونا وشهيقا وغريقا وتقدمَ للسفرِ الوصفيِّ خيولهْ وغناءً أزرقَ يستخدمه البحر ليمشيَ في أروقة الهذيانِ ويستلقي قدام الصمتِ ويسحب -من جيب موسيقىً تتعرقُ- منديله وسكوتًا خشبيا تأكله مدفأةُ شتاءٍ ضل طريق البردِ إلى الشِّعرِ فتمسحُ رأسَ المعنى حيرتُهُ ويريق ليقرأ عينيكِ جدارُ الوقتِ هديلهْ ونهارا قلبيا يلعب بالشمس ويعلكها نبضا ويفسر مفعول جمالك نوباتِ غروب وشروق تنتحل النبض إذا عرَّاك وتفشل حين تحاول بالدقة تمثيله مطرٌ يفتح أغلفة النبض فتسقط كفاه عيونا غائمةً يفتح أغلفة النبضِ ظلالا بالرعشةِ مأهولة أتأخر عن شفتي شفتي تتأخر عن كفي كفي تتأخر عن عيني عيني تتأخر عن غرقي غرقي يتأخر عن لغتي أتأخر نفسي عن نفسي والقصةُ مِن داخليَ إليّ ومِن عينيّ إلى عينيكِ طويلةْ كيف تحمِّضُ صحراءُ النظرة صورتك الممتدة من عمق الماء إلى صرخته كيف أخيط الصورة نهرا والعينُ مسيرٌ والطرْفُ قبيلةْ كم تفقد خبرتها الأزهار لتحليل بيانات عطورك والأبدُ الزهري على نهديك يزلُّ طفولةْ الأذواق المعلومة بالعسل المعصوب بنهدك تشنق تولد من رحم لسان الكوكبِ أذواقٌ مجهولة تقفين بلا جدوىً مليونَ وألفَ وعشر مجاهيلٍ من دون زجاج اللامعقول تخيب الترجمةُ لعينيك وتفشلُ مرآةٌ معقولةْ بحسابات الحب يمر الكوكبُ من خرم النبضة يأخذ نغمٌ شكل الدمِ لا تتناسب فردةُ عطرٍ مع رِجلِ الريحْ أضع جمالك فوق العين جمالك أكبرُ أضع جمالك فوق القلبِ جمالك أكبرُ يعصر مقياسٌ عنبَ اللامعقولِ الخمرُ يسيل من البروازِ الصورةُ إطلاق سراح الألوانِ طيورًا معسولةْ كيف أمرر من خرم الأغنية الحُبَّ وكيف أُحَوِّل طوفانَ جمالِكِ مرآةً مبلولةْ النهر الواقف جنب الموسيقى يكتب بسمته السحرية في لافتة السُّكَّرِ يمحوها إطلالة بيتٍ شعريٍّ يشرحها امرأةً بالرقصةِ مغسولةْ ترمقني يهرع قاموسٌ لا متناه ليفسرَ عيناها أشرعةٌ والبحرُ طفولةْ يتشكل مُهر عسلي من لمعة عينيها حتى يشرحني الركضُ وينسى فوق رياح الشعرِ صهيله عيناها مشكلة الواقع من يقنعه أن الأسرابَ الأنظارُ ويوقظُ في بستان التحديق المغمى إكليله أحتاج قطارا من عيني للقلب ومن قلبي للعين ومن تلك وذاك إلى الثغر لأبلُغ صورتك المسرعة بتوقيت خرافتها فتفوت محطة صورتك التالية وسكتها في رحلتها الأولى مشغولةْ”