في كتاب «من أوراق الرحلات» لمحمد قجة ..

الترحال في خمسين بلداً .

“الكاتب والأديب والباحث السوري محمد قجّة: يأخذنا معه وبشكل مشوقّ في خمسين بلداً...حيث متعة الترحال والسرد الأدبي المشوّق والتوثيق والوصف الجمالي الإبداعي برؤية أدبية شاعرية؟!..” 0هشام عدرة مما لا شكّ فيه فإن للسفر والترحال فوائد كثيرة جدّاً فهي متعة وثقافة وتتيح للمسافر الاطلاع على ثقافات البلدان الأخرى وعلى شعوب هذه البلدان وعاداتهم وتقاليدهم وهناك ومنذ مئات السنين أدباء ورحّالة واعلاميين قدّموا للمكتبة العربية كتبهم ودراساتهم حول رحلاتهم في البلدان التي زاروها وسجلوا ذكرياتهم عنها في إبداعاتهم الأدبية والتوثيقية. وفي هذا المجال صدر مؤخراً كتاب للكاتب والأديب السوري الراحل(محمد قجّة 1939 ـ 2024)كتاباً تحت عنوان(من أوراق الرحلات)وقد صدر قبل وفاته بأسابيع قليلة عن الهيئة العامة السورية للكتاب. والكاتب(محمد قجّة)له عشرات المؤلفات والأبحاث المنشورة في المجال الفكري والتاريخي وخاصة عن مدينته حلب وكان الأمين العام لاحتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2006 ورئيس مجلس إدارة جمعية العاديات السورية للتراث والآثار بين عامي 1994و2019 ثم رئيسها الفخري مدى الحياة ورئيس لجنة السجل الوطني للتراث الثقافي في سوريا ومستشار منظمة اليونيسكو لشؤون التر اث غير المادي ونال العديد من الجوائز ومنها جائزة الدولة التقديرية ووسام المؤرخ العربي من اتحاد المؤرخين العرب وهو من اكتشف موقع بيت الشاعر المتنبي في مدينة حلب السورية عام 1998وتقرر تحويله إلى(متحف المتنبي). يقول المؤلف في مقدّمة كتابه:(أتيح لي خلال سنوات متقاربة أو متباعدة أن أزور أكثر من خمسين دولة حول العالم، كان أكثرها دعوات للمشاركة في مؤتمر علمي أو ندوةٍ ثقافية أو لقاء مرتبط بمناسبة وطنية أو اجتماعية أو كان السفر بغرض سياحي بحت للاطلاع على تجارب الشعوب وبلادهم وثقافتهم وأسلوب حياتهم اليومية وتاريخهم وعمارتهم ومتاحفهم ومرافقهم الحضارية.. ولعلّ هذا الكتاب يشكّل طيفاً لبعض تلك الرحلات، وما حملتُه عنها من انطباعات ثقافية واجتماعية وحضارية، وهي فرصة للاطلاع على طرائف الشعوب وطُرز حياتهم) ضمّ الكتاب الذي جاء بحوالي 230صفحة خمسة فصول قسّمها الكاتب حسب المناطق الجغرافية التي زارها ففي الفصل الأول الذي جاء تحت عنوان(رحلات عربية)ينتقل بنا المؤلف وبشكل مشوّق إلى 17مدنية وعاصمة زارها بدأت في عام 1971 مع زيارته للجزائر إلى مدينة(سيدي عقبة)حيث يصف الكاتب لنا الطريق من قلب العاصمة الجزائرية باتجاه تلك البلدة الصغيرة حيث لا بد من عبور سلسلة حادة من الجبال ليقطع عدة بلدات ومنها(بو سعدة)وواحة (بسكرة)مركز إقليم الأوراس، وبعد ساعات من السفر بالحافلة حيث تظهر رقعة خضراء وسط صفرة الرمال المخيفة ـ كما يصفها المؤلف ـ ليصل بعدها إلى مقصده(سيدي عقبة)حيث يوجد ضريح البطل التاريخي(عقبة بن نافع الفهري القرشي)فاتح المغرب ومدوّخ الروم.. ويصف(قجّة)شعوره وهو يزور الضريح:(الضريح متواضع في القرية، إلاّ أنك تشعر أمامه برهبة البطولة وعظمة التاريخ وحرارة صدق الإيمان وروعة الجهاد)؟!.. يأخذنا الكاتب فيما بعد إلى(المغرب)ليحدثنا وبأسلوب مشوّق عن مدينة تطوان و(شفشاون)المعلقة في إحدى قمم جبال الريف المطلة شمالاً على البحر المتوسط:(تسلقنا الطريق الجبلي عبر سفوح خضراء رائعة لم تفارقها بعد قطرات ندى الفجر، والشمس المتوسطية ليست شديدة القسوة مع خيوط الصباح الأولى).. نتابع مع المؤلف رحلته في(مراكش)وخاصة إلى ذلك الفندق الأندلسي والذي يحمل اسم أكلة حلبية سورية مشهورة(المامونية)وكما يتحدث عنه فإن السياح عندما يتوافدون على مراكش يكون(المامونية)أحد أحلامهم إقامة أو زيارة أو مجرد التأمل به حيث بوابته السامقة والتناغم المعماري الأندلسي والحدائق المذهلة؟.. ويزخر هذا الفندق بسجل يضم من أقام به من المشاهير ومنهم(تشرشل ورزفلت وديغول)ومن طرائف ذكريات إدارة الفندق أنهم اضطروا لتجهيز سرير خاص على مقاس الجنرال ديغول وفيما بعد اضطروا إلى تجهيز سرير ضخم على مقاس المستشار الألماني الأسبق(هلموت كول)؟.. نتابع مع المؤلف رحلته سنة 2002 إلى( القاهرة العامرة)والتي زارها فيما بعد مرّات عديدة، حيث يمكنك أن تقضي أياماً وأسابيع وشهوراً لكي تتعرف على هذه المدينة الساحرة، وأنت تقف على الجسور وتلقي نظرة على نهر النيل المتدفق تحت هذه الجسور، يشكّل الأنشودة التاريخية الكبيرة التي قال فيها الشاعر(محمود حسن إسماعيل): مسافر زاده الخيال.. ويحدثنا(قجّة)عن أصدقائه من الكتاب المصريين ولقاءاته معهم وكان الأقرب إليه(جمال الغيطاني)وكذلك(نجيب محفوظ)الذي حضر إلى مجلسه عدة مرات برفقة الغيطاني في (مركب فرح)العائم على نهر النيل، أو في فندق(شبرد)الذي كان يقيم فيه مجلساً أسبوعياً، وكان الحديث يدور بينه وبين محفوظ عن رواياته وأعماله ورأي(قجّة)فيها، وكان يسأله باهتمام كبير عن مدينة حلب(مسقط رأس المؤلف)والذي أهداه درع مدينة حلب في إحدى لقاءاته معه حيث أعجب(محفوظ)به كثيراً.. يأخذنا المؤلف فيما بعد إلى مكتبة الإسكندرية حيث كما يقول(تتّسم علاقتي بمدينة الإسكندرية بصلةٍ وثيقة أكثر مما هو الحال في علاقتي بالقاهرة والسبب أنني كنت عضو مجلس الإدارة في مركز المخطوطات ومتحف المخطوطات في مكتبة الإسكندرية الكبيرة العظيمة، هذه المكتبة التي لها تاريخ عريق ولها حاضر عظيم؟!.. في رحل عربية نتابع مع الكاتب رحلته إلى(تونس: العراقة الخضراء)والتي زارها عدّة مرّات ليكتشف في كل مرّة جماليات هذا البلد العربي، فيحدثنا عن(القيروان)وهي أول مدينة بناها العرب في تونس حيث بناها(عقبة بن نافع)وأصبحت عاصمة تونس خلال الفترات الإسلامية المتلاحقة..(تشعر وأنت تمشي في أسواق القيروان بأنك تمشي في حلب، كأن هذه المدينة هي نها تلك المدينة! لا فرق في العمارة ولا في سلوك الناس)؟.. بعد(تونس)يصحبنا المؤلف في رحلات مشوّقة إلى(اليمن السعيد)حيث زاره في عام 2009ليصف لنا جولاته في أسواق(صنعاء)القديمة إذ ما لفت انتباهه الاهتمام الكبير بالعسل وأنواعه، ومن طرائف الأمور أن هناك عسل اسمه(عسل الخميس)أي العسل الذي يصلح ليوم الخميس ويُنصح الرجال أن يأخذوا منه لكي يُكسبهم النشاط المطلوب؟.. الفصل الثاني من الكتاب والذي جاء تحت عنوان(رحلات أندلسية)وفي أول رحله هنا كانت للمؤلف سنة 1972وعنونها(نخلة في الغربة)يحدثنا الكاتب عن الطريق الساحلي المنطلق من مدينة بلنسية إلى الشاطئ الاسباني الشرقي التي كانت(عروس الشرق الأندلسي)والتي أنجبت شاعر الطبيعة العملاق(ابن خفاجة)؟. يصف لنا الكاتب الطريق بشكل شاعري حيث عبق النخيل تحمله كفُّ النسيم قبل قبيل الغروب.. وفجأة يتحول العبق الشذيُّ إلى لوحة تزحم الأفق وتمتد بعيداً في مسافةٍ تصِلُ البحر بالجبل وتشكّل غاباتٍ نخيل متعانقةٍ أنيقة الخضرة؟... ومع جماليات وروعة المدن الأندلسية يذهب المؤلف بنا إلى(قرطبة):(لا تستطيع أن تدري لماذا يداهمك البكاء وأنت تدلف إلى قرطبة)بعد قرطبة نتابع مع المؤلف رحلاته من(مدريد)إلى مدن الأندلس الخالدة:(اشبيلية وغرناطة)وليعرّفنا هنا على(كامبو دي كالا ترافا)أي:(باح قلعة رباح)هذه القرية المتواضعة لعبت دوراً هائلاً في الحروب الطويلة بين العرب والإسبان. وفي مدينة(جيّان)الهادئة البسيطة الصغيرة كان صوت أبي البقاء الرندي يتردد في أذن الكاتب: فاسأل بلنسية ما شأن مُرسيةٍ؟ وأين شاطبة بل أين جيّان؟ وانسياقاً ـ يقول المؤلف ـ مع تساؤل أبي البقاء:(أين جيّان؟!)مضينا نبحث عنها بفضولٍ يمتزج فيه الحنين إلى عبق التاريخ والرغبة في التعرف على معالم جديدة. ومع الكاتب نسافر بشوق من مدريد إلى الجنوب الأندلسي حيث(طليطلة والمانشا)التي اختارها الكاتب الاسباني الشهير(ثربانتس)لتكون مسرحاً لحوادث روايته(دون كيخوتة). في الفصل الثالث من الكتاب والذي جاء تحت عنوان(رحلات أوروبية)نسافر مع المؤلف في رحلته الطويلة التي حصلت سنة 1973وذلك عبر البر انطلقت من حلب السورية مروراً بالأراضي التركية شملت عشرة بلدان أوروبية.. المحطة الأوروبية الأولى كانت(فرنسا)وبخاصة باريس ليحدثنا عن اللوفر ومعالم باريس الشهيرة بأسلوب أدبي شيّق من برج إيفل إلى قصر فرساي وغيره.. بعد فرنسا كانت الوجهة(إنكلترا)حيث استغرقت الرحلة عشرة أيام فيها:(كانت وسيلة السفر هي السيارة أيضاً، ولكن قناة بحر المانش لم تكن قد أنشئت بعد، ولذلك برحنا من ميناء(دنكيرك)في فرنسا إلى ميناء(دوفر)في إنكلترا عبر باخرة تقل الركاب والسيارات وكان ذلك طريق العودة)ما كان الصعب على المؤلف هو التأقلم في قيادة السيارة مع البريطانيين حيث يسيرون إلى اليسار بعكس ماهو معمول به في بقية دول العالم:(هذا يجعلني أحتاج إلى نوع من التمييز العصبي الدقيق، خوفاً من الوقوع في خطأٍ مروري هناك، وبخاصة أن كثيراً من الإنكليز كانوا يقودون سياراتهم بسرعةٍ رهيبة)؟... بعد بريطانيا نسافر مع(قجّة)إلى(سويسرا الخلابة)ومن ثمّ إلى(النمسا الساحرة) والتي سيأخذنا معه فيها إلى أجمل مدينة في العالم ـ كما يصفها المؤلف ـ فيينا: المحافظة على تراثها من العصور الوسطى كعاصمة لإمبراطورية النمسا والمجر، وحيث ذكريات الملكات العظيمات في تلك المرحلة، والغنى المعماري والثقافي والفني والتراثي فيكل أرجاء البلاد..(و تبقى فيينا قطعة من الجنّة !)بعد ذلك نسافر مع المؤلف إلى اليونان في(رحلة إغريقية)؟!...ومن ثم إلى(الألمانيتين الغربية والشرقية)والتي استمرت رحلته فيهما تسعة أيام:(في رحلة الحافلة من برلين الغربية إلى برلين الشرقية تعرضنا إلى تفتيش دقيق جداً في الذهاب وفي العودة).. في رحلته إلى إيطاليا حيث التاريخ والحاضر نتجول مع المؤلف في روما مع الآثار القديمة والمتاحف والفاتيكان وما أبهر الكاتب الجانب الثقافي والفني البارز في مبانيها وشوارعها وعرقتها؟!.. ينقلنا الكاتب معه عبر(بوابة سيبيريا)إلى روسيا حيث استغرقت الرحلة بالقطار ثلاثين ساعة من مدينة موسكو إلى مدينة(أوفا)عاصة جمهورية بشكيريا وهي إحدى جمهوريات الاتحاد الروسي وفيها يقيم المفتي الأكبر لمسلمي روسيا الاتحادية. الفصل الرابع من الكتاب حاء تحت عنوان(رحلات آسيوية)لتكون محطته الأولى في(الهند)وليصف لنا الكاتب شعوره قائلاً: تشعر وأنت تنزل في مطار(دلهي)أنك أمام مدينتين:(مدينة قديمة)بطابعها الإسلامي الفريد، وكانت تسمى(دهلي)تشعر فيها وكأنك في مدينة من المدن العربية المعروفة يتوسطها الجامع الكبير وحيث هناك الدكاكين والخدمات والحمامات وحركة تمثل تماماً المدن العربية.. وهناك(دلهي الحديثة)مدينة أوروبية على الطراز الإنكليزي؟. يأخذنا الكاتب(قجّة)في هذا الفصل معه في رحلات آسيوية مشوّقة فيعرّفنا على(ماليزيا: منارة آسيا)وتجربتها الفريدة الناجحة مع عمرها الذي لا يتجاوز النصف قرن؟.. يأخذنا فيما إلى(الصين)حيث زيارة(التنين)ومن ثّم إلى إيران والى تركيا ومدينة(إسطنبول)المدينة الوحيدة في العالم التي تتربع بين قارتين، وإلى مدينة(قونية)حيث هي من(الرحلات التي لا تنسى)؟ كما يأخذنا المؤلف معه في رحلة إلى(باكو)عاصمة جمهورية أذربيجان وعاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2009. يختتم المؤلف كتابه مع الفصل الخامس والذي خصصه لوصف رحلاته مباشرة بين مدينتين حيث هناك(بين الجزيرة الخضراء وسبتة وبين بودابست وبراغ وكوالا لا مبور والرياض وبين حلب ودبي) ما ميّز هذا الكتاب أيضاً أنّ المؤلف(قجّة)ليس فقط مؤرخاً وموّثقاً وأديباً بل نكتشف أنه(شاعر)حيث ضّم الكتاب عدداً من القصائد الشعرية التي جادت بها قريحته وهو يتجول في بعض المدن ومنها قصيدة لمدينة(أبها)السعودية الرائعة تحت عنوان(تحية لأبها)قال فيها: تلك(أبها)فأسرِجوا لي الركابا إنّ لي في ربوعها أحبابا قِممٌ عانقتْ ضلوعَ الثريّا ورجالٌ يُطاولونَ الشِهابا