رواية أوسكار والسيدة الوردية لإريك إيمانويل شميث ..

حين يجعلك الأدب تعيش حياة أخرى .

كنت قد انتهيت لتوي من ثلاثية الكاتب الياباني هاروكي موراكامي الطويلة ورأسي خفيف من الدهشة والفانتازيا التي أطال المكوث في جنباتها ، وتوهانٌ ما يتخبط متقلقلًا في قلبي ، حينها فتحتُ كتابًا بترشيحٍ من صديقة أثق بذوقها في انتقاء الكتب بأكثر مما أثق في ذوقي، كان الكتاب قصيرًا ولم أشأ أن أقرأ أي نبذة عنه قبيل الشروع في قرائته، وربما ماجذبني إليه هو قصره هذا ، حوالي خمسة وتسعون صفحة قصيرة ، الاسم الذي كان مطبوعًا على غلاف الكتاب هو « أوسكار والسيدة الوردية « للكاتب إريك إيمانويل شميث . مالذي يجعل من الأدب أدبًا ؟! مالذي تبتغيه من هذا الصنف المسمى بالأدب ؟! بماذا تريد أن تحس وأنت تدخل في ذهن كاتب ما ؟! بالنسبة لي ، فأنا أريد أن أعيش قصة مختلفة ، حياة أخرى ، بلدة ما نائية لا يسع قدماي أن تصل إليها ، أو حقبة ماضية قضت بما لها وما عليها ولأجلي يعيد الكاتب عقارب الساعة وأحيا حينئذ كل أيامها وتفاصيلها، تلك الحياة التي سبقت وجودي وما وسعنا العمر معًا، لكننا للحظة أثيرية وبمعجزة قلمية نلتقي. والقصة أريدها أن تحتويني ،تسكنني بحق ،تؤثر فيّ، أليس غريبًا عندها أن تكون خمسة وتسعين صفحة أدتْ لي كل هذه الأغراض ووفتها خير وفاء وطالما ما خرجت من ألفي صفحة سابقة إلا بالتوهان والقلقلة ؟!  أوسكار في العاشرة من عمره ، رفاقه الذي يعيشون معه يلقبونه بالأصلع ، لأنه ما من شعر بقي له في رأسه المدور ، أوسكار غاضب قليلًا لأجل هذا يقول لا يعود بوسعك أن تعرف إن كنت فتى أم فتاة ربما كائن فضائي هي الأقرب لي !  أوسكار يحب رفاقه : «الشحم المدخن» وقد سمي هكذا لفرط وزنه الذي يتعالج منه، والصينية لأن شعرها سقط مثل أوسكار وتضع باروكة صينية من حينها، وآينشتاين لأن رأسه كبير بسبب الاستسقاء ، وأخيرًا بيغي بلو الأثيرة لديه والتي تحول لون جلدها للون سماوي جميل بفعل مرض اللوكيميا. أوسكار لم يبق له وقت طويل ، أجريت له عملية جراحية وباءت بالفشل، لا أحد يقول له هذا لكن باستطاعته التكهن بنتيجتها من النظرة الحزينة التي تعلو وجه الجميع حوله ،الطبيب والممرضات ودموع والدته التي تجاهد لتخنقها في حضوره ، فقط السيدة الوردية لا تبكي أبدًا عند سرير أوسكار ولا تخبئ عنه حقائق، السيدة الوردية أقدم الممرضات وأطولهن عمرًا ، ترتدي رداءها الوردي بكل حذاقة واحتراف ،وتحكي لأوسكار حكايات غريبة عن وقت كانت تصارع فيه النساء وتهزمهنّ جميعًا ، تقترح الممرضة الوردية على أوسكار أن يكتب رسائل يحكي فيها أيامه، تقول له «سوف أزورك كل يوم لمدة اثنتي عشرة يومًا ، وفي كل يوم من هذه الأيام ستكبر عشر سنوات «!  يندهش أوسكار «يعني سيكون لدي ١٣٠ عامًا في النهاية ؟! « تومئ السيدة الوردية بقوة « بالطبع هل رأيت كم لديك من أعوام ، الآن بما أنك ستكبر كثيرًا فعليك أن تتحلى بكل صفات الكبار تتشجع وتفعل كل ما كنت تخشى فعله « . هكذا نرافق أوسكار فقط من خلال يومياته ، يحكي لك فيها عن أصدقائه، وعن بيغي بلو التي واتته الجرأة أخيرًا ليعترف لها بإعجابه ، أوسكار كل يوم يراقب الساعة ،أنا الآن في العشرين في الثالثة والعشرين في الأربعين ياااه لقد كبرت كثيرًا !  هل من شيء يمكن أن يكتب في عالم الأدب ويكون أكثر عذوبة ورقة وتأثيرًا من هذا ؟!  ترحل مع أوسكار في رحلة للتصالح مع مرضه ،للتصالح مع الألم والأوجاع والمعاناة ، تقول له الممرضة الوردية «أتعرف يا أوسكار إنك سوف تموت وقد أدركت هذا جيدًا لأنك ولد ذكي لكننا جميعنا سوف نموت كلنا سنرحل ،كلنا سنغادر الحياة في الوقت المناسب ، وكونك سترحل أولًا ليس بشيء سيء أبدًا « ، وفي هدوء وفي دعة وفي رقة ينزلق أوسكار حتى البوابات المجهولة ، تشفى بيغي بلو وترحل مع أهلها ، يتصالح أوسكار مع والديه ،لأنه برغم أنه سيرحل أولًا فإن ذلك لا يعطيه الحق في أن يُحزن الآخرين الذين سيرحلون كذلك ، كما أسرّت له السيدة الوردية ، في نهاية الاثني عشر يومًا ، أي حينما يصبح عمره مائة وعشرة عامًا يكتب أوسكار « هذا عمر طويل حقًا، الشيخوخة ليست ممتعة ، أعتقد أني سأموت « . كيف لصفحات قليلات أن تعالج موضوعات نأتْ بثقلها روايات الألفية ، الوحدة ،المرض ،التصالح مع الحياة ،كينونة الدنيا ومفهوم الآخرة ،البقاء والرحيل ،الحزن والألم ، وكثيرات غيرها ، لا غرابة أنها نجحت نجاحًا منقطع النظير وبلغت في قراءتها وترجماتها أرقامًا فلكية، وفي صدر كل قارئ من الملايين القارئة دقّ قلب صغير اسمه أوسكار . إن البشر في سعي حثيث للتشبث بالحياة ، يعيشونها يومًا يومًا ممتصين كل دقيقة حتى الثمالة منها، حتى آخر ثانية من عمرها ، ينظرون إلى الغد وكأنه أبدي الوجود ، وإلى اليوم وكأنه باق ما بقي الدهر ، ممتد ما عاش الزمان ، يحسبون الآجال بعيدة وما وقوعها إلا بعيد خطوات ،» أظن الحياة في النهاية ليست هبة ، بل هي دين وعليك أن تفي به في دقائق عمرك المحدود «، لو كانت الحياة بروحها لا بسنواتها، لو كانت بما يقع للقلب فيها لا بما يسرق الوقت من لحظاتها، فإن هذا الفتى الأصلع الصغير قد أدرك كنهها وعاشها في أيام معدودات كما لم يعشها معظم معمّريها . أُكبر الكاتب الذي ضمّن صفحات قلائل معانٍ عديدة كبيرة رائعة عميقة دون تيهٍ دون تشتت دون تخبط، معنى واضح صريح وفي غاية العذوبة .