أوقاف الجامعات ... القوى الناعمة
تعتبر الأوقاف من الدعامات الأساسية الساندة للاقتصاد الإسلامي وتطبيقاته المتعددة في جميع مناح الحياة. حيث تحقق “الأوقاف” أغراضًا عريضة، وتنجز وظائف متعددة، في مجالات واسعة. أثْرَت حياة المجتمع، وغطت كثيرًا من الثغرات وأوجه النقص والقصور التي يشهدها الأفراد، خاصة الطبقات الفقيرة، وما في حكمها. ويُعد الوقف صدقةً جارية، ومن أعظم القربات إلى الله تعالى ومن أجلها قدرًا، واوسعها نفعًا، وأطولها استدامة. حيث يقول الله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة- الآية 261- ويقول “جابر بن عبد الله رضي الله عنه “ (لم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وَقَف). ويُعَد “الوقف العلمي” أحد أوجه الأوقاف في “الشريعة المحمدية” التي ساهمت بتعزيز الأنشطة العلمية، حيث أدت الأوقاف العلمية أدوارًا مهمة في دعم دُور العلم والمكتبات، حين لم يكن آنذاك جهات حكومية متخصصة، ومعنية بدعم البحث العلمي ورعاية مؤسساته المتعددة. وقد استحسنت الأمم الأخرى هذه التجربة الرائدة واستنسختها بشكل يكاد يكون حرفيًا، وطبقتها عمليًا حتى أصبحنا نراها في الكثير من الجامعات العريقة التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على ما لديها من أوقاف. خَلُصَت دراسة موسعة ومحكمة - أعدها “د. منهل إسماعيل العلي بك العنزي” من “كلية الآداب” في “جامعة الموصل” بعنوان “ دور الأوقاف في تنمية البحث العلمي وتطويره في جامعات دول مجلس التعاون الخليجي” أن المؤسسات الوقفية قد أسهمت في تنشيط حلقات البحث العلمي في جامعات “دول مجلس التعاون الخليجي”. كما أدى الوقف – العلمي – دورًا كبيرًا في تنمية الحركة العلمية والثقافية في “دول المجلس” عن طريق الجامعات والمراكز البحثية والمكتبات ورجال العلم. تأتي الأوقاف من أسطع القناديل إضاءةً في منظومة العمل الاجتماعي والخيري في التاريخ الإسلامي. وتُعَد “المملكة العربية السعودية” واحدة من الدول الغنية بالأوقاف الضاربة في أعماق التاريخ، كوقف “أمير المؤمنين عثمان بن عفان – رضي الله عنه وأرضاه”. وقد شهد هذا القطاع المتطور عبر القرون تطورات هيكلية انتهت بإنشاء “ الهيئة العامة للأوقاف” في عام 1437هـ حيث أنيط بـ “الهيئة” الإشراف العام على قطاع الأوقاف وتطويره، من حيث حصر جميع الأوقاف وتسجيلها، وبناء قاعدة معلومات متكاملة، ليكون جزءً أساسيًا من نسيج شبكة الاقتصاد الاجتماعي. انطلاقًا من استشعار “الهيئة العامة للأوقاف” لدورها الرئيس في تطوير “قطاع الأوقاف” والعمل على تذليل كافة الصعوبات والتحديات التي - قد – تعيق حيوية “هذا القطاع” وتعمل على إبطاء دوران عجلته، وبرعاية كريمة من لدن “صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز – أمير منطقة الرياض” فقد نظمت “الهيئة” من خلال ذراعها الطويلة” مركز الريادة الوقفي” وبالتعاون مع “المجلس التنسيقي لأوقاف الجامعات السعودية” خلال يومي 23و24 من شهر ذي القعدة 1443هـ - الجاري - في “مدينة الرياض” مؤتمرًا لـ (تمكين “الجامعات السعودية” من تأسيس أوقاف ذات أثر تنموي)، تناول “المؤتمر” بالبحث العميق والنقاش المستفيض عدة محاور وموضوعات تتعلق باستشراف مستقبل أوقاف الجامعات السعودية، وتمكين “الأوقاف الجامعية” لتساهم في تحقيق الاستدامة المالية للجامعات. تمحور “المؤتمر” حول خمسة عناصر رئيسة شارك في مناقشتها كوكبة كريمة من مدراء جامعات، وعمداء كليات، وأكاديميين متخصصين، وعدد من التنفيذيين المهتمين من قطاع الإدارة المالية. تناولت محاور” المؤتمر” تأسيس الثقافة الممكنة لأوقاف الجامعات، والتوجه الاستراتيجي لتلك الأوقاف في ظل “رؤية المملكة 2030” وبحث الحلول التمكينية في تمويل الأوقاف الجامعية، والفرص والمنتجات الاستثمارية الملائمة لها، واستعراض نماذج وممارسات محلية رائدة في تأسيس أوقاف تعليمية ناجحة. ترددت في جلسات المؤتمر وفي الحوارات الجانبية - أكثر من مرة - أسماء جهات حكومية ذات علاقة مباشرة، ومؤثرة في ديناميكية “الأوقاف الجامعية” كـ “وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية” و”وزارة التجارة” و”وزارة الاستثمار” و”هيئة الزكاة والضريبة والجمارك” و”الهيئة العامة لعقارات الدولة” و”هيئة السوق المالية” و “البنك المركزي السعودي” و”معهد الإدارة العامة” و “المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي” و “مجلس الجمعيات التعاونية” و” اتحاد الغرف التجارية”. فتفحصت وجوه المؤتمرين فلم أر من بينهم ممثلين من تلك الجهات، وبالتالي كان الطرح الأكاديمي طاغيًا على جلسات المؤتمر وحواراته الثرية. حرصت كثيرًا على حضور جميع جلسات المؤتمر، وخرجت منه بمعلومات ثرية حول هذه القوة الناعمة – الأوقاف الجامعية – حاملًا انطباعات إيجابية جدًا حول التنظيم الراقي، والتقديم الجميل لفقرات المؤتمر، مستفيدًا مما طرحه المتحدثون، والمتداخلون من معلومات أثرت حصيلتي المعرفية حول “قطاع الأوقاف” هذا القطاع الحيوي الهام. متمنيًا أن يعمل “المؤتمرون” على تطوير معايير خاصة لحوكمة “الأوقاف الجامعية” وفقًا لمفاهيم الحوكمة الحديثة التي لا تقف عند الأنظمة واللوائح فحسب، كما نرددها أو نتخيلها دائمًا - بوعي أو بدون – حيث تتجاوز هذه المعايير الأُطر المعروفة إلى آفاق رحبة وهامة أخرى، وهي معايير مؤثرة في أداء الأوقاف غير مذكورة في الأنظمة واللوائح المعروفة - منها على سبيل الذكر وليس الحصر – هُوية الوقف وحدود العلاقة بين الوقف والواقف، وكذلك حدود العلاقة بين إدارة الوقف العلمي وإدارة الجامعة، والقيم الأساسية للوقف، والملاءة المالية التي يتمتع بها، والأنشطة والفعاليات التي ينفذها، واهتمام الوقف بالعاملين، وعلاقات الوقف مع عملائه ومع المستفيدين منه، وعلاقة الوقف مع الأوقاف الشقيقة، ومع الجهات الحكومية ذات العلاقة، ومع المجتمع المحلي، وطبيعة الخدمات المساندة للوقف، ونحو ذلك من المعايير الأخرى المؤثرة في فعالية الوقف وديمومته. وبناءً على ضوء هذه المعايير التي يجب أن تُحتسب بأوزان كمية وفقًا لدرجة أهميتها، يتم تصنيف الوقف الجامعي من حيث المستوى الشامل للوقف، دون الاكتفاء بحجم أصوله فقط كمعيار وحيد لتحديد مستواه، ليأخذ في الأخير أحد التصنيفات التالية (وقف نموذجي، وقف نشيط، وقف ضعيف، وقف متعثر، وقف متدهور، وقف متوقف، أو وقفٍ جديد يعطى مهلة سنتين لإخضاعه للتصنيف). كما أقترح أن يدرس “المجلس التنسيقي لأوقاف الجامعات السعودية” مدى الحاجة لتأسيس جمعية تعاونية تشترك في عضويتها كل من الأوقاف الجامعية والأوقاف الخاصة، ليتعاونوا جميعًا عبر هذه “الجمعية” على تطوير ديناميات الأوقاف وتحديث تقنياتها، والقيام بمشاريع استثمارية وأنشطة جماعية مشتركة، لكي تعم الفائدة على الجميع، وتتوزع المخاطر فيما بينهم. لاسيما وأن الجمعيات التعاونية تقف على قاعدة صلبة أساسها “نظام الجمعيات التعاونية” الصادر بقرار “مجلس الوزراء الموقر رقم (73) وتاريخ 09/03/1429هـ والمتوج بالمرسوم الملكي الكريم رقم (م/14) وتاريخ 10/03/1429هـ، ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار “معالي وزير الشؤون الاجتماعية “ رقم (53068) وتاريخ 10/06/1429هـ – لغرض تحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية لأعضاء الجمعيات التعاونية ، وتحظى الجمعيات التعاونية برعاية كريمة من جانب حكومتنا الرشيدة عبر حزمة سخية من المُنَح العقارية والتسهيلات الإدارية والدُعُم المالية. كما أقترح إقامة ورشة عمل خاصة يشترك فيها اختصاصيون في علم الإدارة والقانون والشريعة – من داخل المملكة وخارجها - يتم خلالها حسم هُوية الأوقاف – بوجه عام – والأوقاف الجامعية بصقة خاصة – هل هي مؤسسات ربحية تعمل بموجب سجلات تجارية هدفها تحقيق الأرباح وتعظيم الأصول، وبالتالي ينطبق عليها ما ينطبق على مؤسسات وشركات القطاع الخاص؟ أم هي كيانات خيرية هدفها تنمية قطاعات مستهدفة سواء كانت علمية أو صحية أو عبادية؟ وبالتالي لا تجب عليها الزكاة، وتعفى من الضرائب والرسوم أيا كان نوعها. كما أقترح إقامة ورشة تالية تنطلق من توصيات الورشة الأولى، لتتبنى دراسة أنظمة ولوائح الجهات الحكومية الأخرى ذات العلاقة، وحصر ما فيها من مواد لا تنسجم مع خصوصية الأوقاف، وتحد من انطلاقتها وتعيق نموها وتطورها. لتتولى “هذه الورشة” اقتراح الصيغ المناسبة لمعالجتها. وفي هذا المقام أود التذكير بالتقرير الصادر من “مركز الأوقاف في الغرفة التجارية بالرياض” الذي رصد (43) تحدٍ رئيس، و (85) تحدٍ فرعي تواجه الأوقاف في المملكة. وفي الختام أتمنى أن تتضمن توصيات “المؤتمر” - هذا الحدث - الهام إقامته في كل عام، وفي كل مرة يعقد في منطقة من مناطق المملكة، فقد تختلف التجارب الوقفية من منطقة عن الأخرى. والتوصية أيضًا بالطلب من “هيئة الأمم المتحدة” – عبر القنوات الرسمية - اعتماد يوم عالمي للأوقاف. وبالرفع لـ “رابطة العالم الإسلامي” بطلب تأسيس “مجلس أعلى للأوقاف” أو تطوير “المجلس الأعلى للمساجد” ليكون مجلسًا أعلى للمساجد والأوقاف.