الذكرى الخمسون لرحيل عميد الأدب العربي..

طه حسين.. الكفيف صاحب «البصيرة الحاضرة».

الكتاب: بصيرة حاضرة.. طه حسين من ست زوايا. المؤلف: الدكتور عمار علي حسن. الناشــر: مركز أبوظبي للغة العربية، الإمارات. تاريخ النشر: مايو/ أيار 2023. بالتزامن مع الذكرى الخمسين لرحيل الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، صدر مؤخراً عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، بالإمارات، كتاب بعنوان «بصيرة حاضرة.. طه حسين من ست زوايا» للكاتب د. عمّار علي حسن، أستاذ علم الاجتماع السياسي، وأحد أبرز الباحثين المصريين المعاصرين. يرى د. «عمار»، في كتابه الموسوعي الذي يقع في 504 صفحات، أن «العميد» كان مؤسسة ثقافية تمشي على قدميّن، ويعتبر أن البحث في مُنجزه الثقافي والحياتي ليس بحثاً في الماضي فقط، بل في الحاضر أيضاً؛ لأن نصه وأسلوبه وسلوكه الثقافي في زمنه، لا يزال قادراً على إفادتنا فيما يواجه عالمنا العربي اليوم من تحديات جسام. السؤال الأساسي الذي يطرحه الكتاب هو: لماذا بقي طه حسين حياً في الذاكرة العربية إلى اليوم، هل ذلك بسبب جماليات نصّه الأدبي؟ لقد جايله آخرون بنصوص جميلة، وتجاوزت المدارس الفكرية الكثير من أفكاره، فهل يعيش لأننا لم نزل نتعثر في سبيل الإجابة عن أسئلة زمنه؟ رحل طه حسين عن عالمنا في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وترك خلفه إرثاً ثقافياً كبيراً، ومُنجزات أكبر على الأرض، كان عنوانها الأبرز هو سيرته المضيئة وكفاحه الشخصي - وهو الضرير الفقير- من أجل أن يتحقق شعاره أيام كان وزيراً للمعارف «التعليم كالماء والهواء». ووضع «حسين» اسمه باقتدار بين أعلام الثقافة العربية على مر العصور، لأنه صاحب بصيرة حاضرة ونافذة، رأى بها ما لم يره المبصرون، فقطع بذلك المسافة الشاسعة بين ما كان ينتظر هذا الكفيف الريفي من مصير مظلم، وبين ما حققه من مكانة فكرية عالية. سقراط والعميد يحكي المؤلف، في مقدمة الكتاب، كيف تعرّف في مرحلة دراسته المبكرة إلى طه حسين كاتباً، يقول «سِرتُ أحمل نسختي من كتاب «الأيّام» في جزئه الثالث، لدراستها ضمن مساق اللغة العربية، وأنا طالبٌ في الصف الأول الثانوي، الكتاب في يدي، وعيناي تُطالعان تمثال طه حسين الذي كان ينتصب على بعد خطوات من مدرستي، ناظراً إلى الأمام في شموخٍ وتواضعٍ في آنٍ، أمامه النيل، وهو يَري ويَسري بعد شارع عريض، وخلفه رصيف وجدار، يمضي إلى جانبه الطلاب مسرعين في الذهاب والإياب، يرمقون التمثال في لمح البصر، أو يقفون عنده مُكبرين هذا الرجل الجليل، الذي لم نكن ندري الكثير عنه في هذا الزمن البعيد، سوى أنه ابن بلدنا «المنيا»، الكائنة في صعيد مصر». وبعد المقدمة الضافية، اعتمد الكاتب على قراءة مختلف أعمال طه حسين، وأغلب ما كُتب عنه، ليراه بشموله وتمامه من زوايا ست مختلفة، وهي الفصول الستة الواردة حسب هذا التسلسل في الكتاب: المنهج، والنص، والذات، والصورة، والموقف، والأفق. وخاض المؤلف في عالم طه حسين دون عقيدة مسبقة، سواء بالقدح أو المدح، وإن كان لا يخفي إعجابه بمعالجات عميد الأدب لكافة قضايانا الآنية والماضية. ومن ثم، دخل إلى عوالم بطله عبر نقد قصصه ورواياته وأشعاره التي تخلى عنها، وتناول تجربته الميدانية في السياسة والإدارة، واستلهم سيرته الذاتية التي لا تزال مختلفة عما سبقها ولحق بها، ووقف عند طريقته في التدريس وتربية عقول التلاميذ، منطلقاً من كل هذا إلى قياس الأثر الباقي للرجل في حياتنا المعاصرة. وخلال استعراضه لمنهج «حسين»، اعتبر الكاتب أن ذلك المحور اعتمد على الحوارية والتعدد، وهو ما تفرد به في حينه، معتبراً أنه استقى ذلك المفهوم من روافد شتى أبرزها الفقه الإسلامي والمسرح الفرنسي والأدب، والفلسفة اليونانية، وعلم الجرح والتعديل، ودراسة المنطق، وعلوم العرب في الآداب والتاريخ. وفي سبيل البحث عن «المنهج»، يقول المؤلف إن «طه» كان معجباً أشد الإعجاب بالفيلسوف اليوناني القديم سقراط (470 ق. م - 399 ق. م)، الذي كانت حريته قرينة وجوده، فقد وضع الحرية قبل العدل في سلّم القيم لديه، معتبراً أنها الطريق إلى كل الفضائل، فالشعور بالعدل يقوى ويشتد كلّما قويت الحرية واشتدت. وصف «طه» في أحد كتبه سقراط قائلاً: «كان يعلّم الناس وهو يحاورهم أن للإنسان ضميراً حراً، ليس لأحد سلطان عليه، ولا ينبغي أن يكون موضوعاً للمساومة، ولا سلعة تعرض للتجارة، وأن حرية التعبير وحرية الضمير وحرية التفكير هي التي تجعل الإنسان إنساناً». في هذا الصدد، خالف طه حسين الكثير مما ساقه أصحاب نظرية الالتزام الأدبي من الكُتّاب والنُقاد اليساريين الذين تخلّوا عن الحرية، ولو جزئياً، في سبيل تحقيق الأهداف الكبرى لأمتهم، أو حزبهم أو تنظيمهم أو جماعتهم، حيث كان التزام الكاتب عنده مرتبطاً بالحرية، ففي نظره: «كل أديب ملتزم بما يعتقد، وإذا أُكره على أن يكتب شيئاً لا يؤمن به، فلن يكون لما يكتبه تأثير في النفس والوجدان، أو يكون عملاً أدبياً لا تشيع فيه حرارة الصدق، أو أصالة الخلق، أو يكون شبيهاً بجسم لا حياة فيه». فضيلة المساءلة رغم أن طه حسين بدأ رحلته مع التعليم في مسار ينشغل بالرواية قبل الدراية، وفق ما يرى المؤلف، وسأل دائما عن «حفظ» الدرس أو استظهاره قبل أن يسأل عن «فهمه»، فإنه باستثناء أشياء قليلة.، أدرك منذ وقت مبكر أهمية فضيلة المساءلة، وأثرها البالغ في التعلّم الحقيقي. لقد اهتم «طه» في مشروعه الثقافي المثير للجدل بسؤاليّن هما: كيف ولماذا؟، أكثر من أي أسئلة أخرى. وهو ما أعطى منتجه الفكري والأدبي حيوية، لم تنقطع إلى الآن، وجعله يقدم درساً متجددا في نجاعة التفسير والتأويل والتحليل والتعليل. ولم يكتف المؤلف باستحضار مشروع العميد الفكري والثقافي، ووضعه تحت مجهر الفحص والدرس والتحليل، بل اقترب منه كثيراً بوصفه إنساناً وفاعلاً اجتماعياً، مارس أدواراً عديدة في حياة معاصريه، حتى بات علامة فارقة في زمانه، وأدى حاصل جمع نصه وشخصه إلى إنتاج ظاهرة، علا شأنها، ووصل خبرها إلى الشرق والغرب معاً. إلى ذلك، يتطرق الكاتب إلى زاوية أخرى من زوايا حياة بطله، وهي معيشته الشخصية، حيث يقول «أنفق طه حسين بسخاء يناسب استطاعته، لأن أسرته كانت تريد عيشاً مريحاً. وهناك واقعة تدل على ذلك، فمعروف أن الشاعر كامل الشناوي كان مسرفاً، يُنفق كل ما يكسبه على نفسه وأصدقائه ولا يدخر شيئا، وقد وصف حاله هذا قائلاً: لا أُمسك المال إلاّ كما تُمسك الماء الغرابيل! وحين انتقده طه حسين، مذكرا إياه بحديث القرآن الكريم عن أن المبذّرين هم إخوان الشياطين. رد عليه الشناوي متسائلاً: «وماذا جمع الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل العالم وربح مئات الألوف من الجنيهات؟ ماذا اقتنى غير البيت الذي يسكنه الآن، وكان حتى وقت قريب يستأجر السكن، وينفق عرقه على الديون؟». واختتم د. عمار علي حسن كتابه بخاتمة غير تقليدية، تقوم على تقديم اقتراحات وتوصيات صاغها في شكل حواري، وضع فيه مشروع طه حسين في تفاعل خلّاق مع رؤى فكرية أخرى، لم يلتفت إليها الباحثون العرب بالشكل الكافي، أو لم يتعامل معها بالقدر الذي يجب أن تحتله من أي مشروع نهضوي عربي عليه أن يأخذ في الاعتبار طبيعة المجتمع الذي ينطلق فيه، من حيث جذوره وثقافته وظروفه الحياتية وقضاياه الكبرى. استطاع «طه»، بفضل إرادته الصلبة وثقافته الموسوعية ومواقفه الشجاعة، أن يخلق أسطورته الخاصة التي أبهرت الناس، وتحوّل من ذلك الفتى الأزهري الكفيف الذي كان إخوته يتندرون على طريقة تناوله للطعام، إلى الشاب الذي وصل إلى جامعة «السوربون» في قلب باريس، عاصمة النور وكعبة الثقافة وقتها، والذي أصبح بعد سنوات قليلة عميد الأدب العربي، ووزيراً للمعارف، وكان أول وآخر وزير مكفوف في تاريخ مصر الحديث. ولم ينته أثر طه حسين في حياة العرب، ولا يبدو أنه سينتهي، فقد ضرب الرجل سهمه في كل اتجاه، وأنتج من الأفكار والآراء والأساليب والطرائق والأذواق، بل التصورات والإجراءات حول التحديات التي واجهت المجتمع في زمنه، وعن القضايا والمشاغل التي أخذت بعقول الناس ونفوسهم، ما يصلح أن نعود إليه من دون انقطاع، نظراً لاستمرار المشكلات قائمة، وبقاء التساؤلات عالقة. ويؤكد د. «عمّار» في ختام الكتاب أن «مساءلة مشروع طه حسين، على هذا النحو، لا تقلل من قيمته، فهو كان معنياً، بالدرجة الأولى، بوضع الأسس التي يسير عليها التفكير السليم، مؤمناً بأن «العلم بمدخله لا بموضوعه»، ففتح لمن يأتون بعده أفقاً عالياً، وشقَّ درباً واسعاً، يمكنهم أن يمضوا فيه باحثين عن طرق أخرى للتنوير، أو مسارات أخرى تتواشج مع التصور العام لعميد الأدب العربي، لاسيّما أنه تصور تفاعل مع قضايا الناس، ولم يزعم صاحبه أبداً أنه مُكتمل وقطعي، بدليل أنه كان يراجع نفسه، ويحاور غيره، ويسعى إلى الحكمة أينما كانت، وحيثما تجلَّت». *صحافي وكاتب من مصر.