أربعة كتب عن الحرية..
1 هناك إمكانية لمعالجة الدراسات العربية عن الحرية من غير السجال والدحض، وهي احتواؤها في بناء نظري أوسع. وإن تحولت المقالة إلى سجال مع كتابها فإن ذلك سيصبح مدحا في ضوء عبارة المؤرخ البارز لعلم النفس بول روزن التي مفادها أن أي كاتب يستغرق وقتا طويلا لتُصحّح أخطاؤه لهو كاتب مرموق في التاريخ الفكري؛ فروزنتال مستشرق مرموق في الدراسات العربية والإسلامية، وعبدالله العروي مفكر مرموق في تاريخ الفكر العربي المعاصر، ولا يزال عزمي بشارة يشق طريقه الفكري مصدرا إلى الآن عددا من الكتب. لقد حاولت أن أعرض فكرة كل كاتب من هؤلاء بما اعتقدت أنه أقوى ما سيكون عليه فكره. وقد تأثرت بملاحظة للفيلسوف سيتورات مل في إحدى مراجعاته النقدية مفادها عدم جواز الحكم على شيء ما لم يحكم عليه في أفضل صورة. يعلق الفيلسوف السياسي جون رولز على هذه العبارة التي نقلتها عنه قائلا “ لم أقل ما كان عليهم أن يقولوه في رأيي، لكن ما قالوه حقا مدعوما بما رأيت أنه التأويل الأكثر عقلانية لنصوصهم ... ينبغي الاعتراف بالنص واحترامه، مع تقديم المبدأ في أفضل صورة”. 2 يرى روزنتال أن اللغة العربية لم تعرف مصطلحا يُستخدم استخداما عمليا للتعبير عن كل ما يحمله مفهوم الحرية من سعة، حتى جاء التأثير الغربي في مطلع العصور الحديثة فأعطاها معنى جديدا. لم يبرر هذا الحكم. صحيح أنه أورد الكثير من النصوص. لكن الاستعانة بالنصوص لإبراز ما يريد أن يوضحه أمر، واستعراضه النصوص باعتبارها ذاكرة عربية لكلمة الحرية أمر آخر. لقد اكتفي بإيراد النصوص من دون أي تعليق عميق. لذلك لم تخدم النصوص ما أراد قوله لأنها مازالت في حالتها الخام؛ أي أنها لم تعالج من وجهة نظر الموضوع. ذلك ما يفهم من مقدمة رضوان السيد للترجمة، فهو يرى أن عمل روزنتال توثيق يجمع المادة أكثر مما يُعني بالموضوع، وهو تقميش وتعنت منهجي لأنه لا يريد أن يرى للحرية وجودا إلا في المواطن التي تذكر فيها بلفظها. وقد حال هذا التعنت من وجهة نظر رضوان السيد بين روزنتال وبين النظر إلى الأمر من مستويات أعلى أوسع. لا يقتصر نقد السيد على جمع روزنتال النصوص من دون تحليل، ولا على التعنت المنهجي، بل يضيف وصفا آخر هو شوفينية روزنتال فالحرية المدنية عنده مفهوم غربي خالص، والفكر الشرقي لم يعرف الحرية معرفة واعية. يعترف رضوان السيد بالجهد الذي بذله روزنتال في البحث عن نصوص الحرية في مظانها المنشورة أو المخطوطة. لكن إذا كنت فهمت حقا مقدمة رضوان السيد فإنه يشير إلى أن معرفة الكثير قد تمنع فهم الجوهر العميق كما هي حكمة هيراقليدس المشهورة. وأن إيراد النصوص كما فعل روزنتال إحدى الطرق النافعة، لكنها بالتأكيد لن تكون نافعة ما لم تُحلل من زاوية الموضوع. قد يكون روزنتال نجح في إشعار القارئ بأبعاد أزمة مفهوم الحرية في التراث العربي الإسلامي، وهي أبعاد متعددة ظهرت في تحليله بمثابة فجوة اختار أن يملأها بأسهل الطرق، وأقل جهد وهو أن الحرية كمفهوم ليست موجودة. بيد أننا إذا أردنا الإنصاف فإن تعليقات روزنتال الموجزة على النصوص التي أوردها ذكية، وأظن أن مقدمة رضوان السيد غالت في وصفه، فمسألة التاريخ للحرية في الثقافة العربية مثيرة، وأن يعرف الباحث تاريخ وظروف ظهور فكرة الحرية الفردية أكثر إثارة. وأظن أن روزنتال كان يريد أن يقول إنه لم يجد دليلا حاسما عن أي صيغة واضحة للحرية عند العرب القدماء، وما وجده من نصوص لا تعبر عن إشكالية. من الصعب أن نعترض على هذا الرأي. وفي مقدوري القول أن هذا العرض غير الإشكالي لكلمة الحرية نتج عن وضع المجتمع العربي الإسلامي العام؛ وهو أن ممارسات الناس الاجتماعية أقل إشكالية. فأن يعيش الفرد في المجتمع العربي القديم يعني أن يعيش كما عاش أسلافه، وما تتوقعه منه العادات والتقاليد والأعراف. فالإسلام موجود من أجل أن يوجهه إلى كيفية العيش، وليس مهما أن يكون للفرد معنى فريدا لكيفية عيشه، فوظيفة الفرد ضمن كل أعلى ينتمي إليه هو والجماعة والمجتمع. ومع كل النقد الذي وجهه الباحثون العرب إلى أفكار روزنتال إلا انها ليست بلا فائدة لهم. كما حدث في مقالة عزمي بشارة عن الحرية؛ فتحليله يكاد يبلور ما انتهى إليه روزنتال من أن الحرية لم تكن كافية لإنتاج ثورة ضد القهر الاجتماعي والسياسي، ولا ثوارا مستعدين للموت من أجلها. فعزمي بشارة يرى أن هناك غزارة في أوصاف قيم الحرية وخصالها قبل الإسلام وبعده. وذلك من خلال التغني بفضائل الإنسان الحر، والمروءة، والعزة والفروسية وغيرها. وما يمكن فهمه أن مفهوم الحرية عنده يولد في الذهن عن طريق ممارسات الحرية ذاتها. ولن يفقد مفهوم الحرية في هذا الرأي علاقته بالواقع، لكنه سيكون مفهوما أخلاقيا. وبالفعل فالحرية من حيث المبدأ موجودة في الواقع عند عزمي بشارة، فهي تظهر مثلا في الحكم العربية كوعد الحر دين عليه، وفي فضائل الحر في شعر المتنبي، بل إن شعر عنترة بن شداد يكاد يكون كله توقا إلى الحرية، وحتى وهو عبد فهو يتغنى بصفاته كما لو أنها صفات رجل حر. فضلا عن الشعر عاد عزمي بشارة إلى معجم لسان العرب ليجد تداعيات إيجابية لمعاني الحرية ترتبط بصفوة الناس والأشياء، يعرض هذه المعطيات لا لكي يستنتج وجود مفهوم الحرية، بل أيضا ليحذر من محاسبة الحضارة الإسلامية استنادا إلى مصطلحات تطورت عبر قرون. ويبدو لي أن مقالة عزمي بشارة ترى أن مفهوم الحرية المعجمي يتضمن بنية تعريفية، فهو يتكون من مفاهيم أبسط، لكن هذه المفاهيم تحمل ما يكفي من السمات لكي تُدرج تحت مفهوم الحرية. وفي هذا السياق يأتي استشهاده بالمعجم. فالحر من الناس: أخيارهم وأفاضلهم. وحرية العرب: أشرافهم، ويقال من حرية قومهم أي من خالصهم، وفرس حر: عتيق. وحر الفاكهة: خيارها. والحر: كل شيء فاخر من شعر وغيره، والحرة الكريمة من النساء، وحر البقل والفاكهة والطين: أجودها، وحر الوجه: ما أقبل عليك منه”. لذلك فمفهوم الحرية يتكون عنده من تجميع مكونات تعريفية كالأخيار والخلوص في النسب إلخ، وهذا ممكن من الناحية النظرية. لكن المشكلة التي يواجهها فهم بشارة للمفهوم هو أي المكونات هو الأكثر تمثيلا لمفهوم الحرية. مثلا لو كان هناك حرّ أي ليس عبدا، لكنه غير خالص النسب بتعبير العرب، وليس خيرا إلخ، فأي وزن لهذه المفاهيم التي تشكل في مجموعها مفهوم الحرية. لقد كان عزمي بشارة واعيا لهذا المشكل لذلك سماها “تداعيات إيجابية لمعاني الحر والحرية”. لكن في رأي أن ما نفهمه من هذه التداعيات هي المفاهيم التي تشير إليها وقد أجملها هو نفسه في صفوة الناس والأشياء. فضلا عن ذلك يرى عزمي بشارة أن الحرية مشروطة بالوعي، وما الحرية إلا إجراء لتحقيق الوعي بها. لذلك ينفي أن يولد الإنسان حرا لأن المولود يفتقد الوعي والإرادة. ويوجه العبارة التي مفادها أن الإنسان يولد حرا إلى أنها تعني ألا يولد عبدا، أي أنها عبارة ضد العبودية بنفي طبيعتها ولا علاقة لها بالحرية كمفهوم. يمكن القول أن عزمي بشارة من وجهة نظري وضع الوعي فوق الإنسان، وعلى امتداد مقالته يحدد بالوعي حرية الإنسان. وعلى أي حال فهذا متوقع لأن بشارة يتبني المقاربة المثالية التي تموضع المفاهيم في الوعي، ومن هذه المفاهيم مفهوم الحرية. والنقد الموجه إلى هذا النوع من المقاربات هو نقد المفكر والمنظر الأدبي ميخائيل باختين بأن الوعي هو ملجأ الجهل في كل بناء مثالي، وقد تحول الوعي إلى مزبلة تتراكم فيها كل المشكلات الشائكة التي صعب حلها، وكل الفضلات التي لا يمكن اختزالها موضوعيا. وبدلا من محاولة البحث عن تعريف للوعي، يُسخر الوعي إلى تحويل المفاهيم المتماسكة إلى مفاهيم ذاتية ومائعة. 3 يرى عبدالله العروي أن التجربة الإنسانية التي تتعلق بالحرية عند العربي أغنى بكثير مما يوحي به المعجم العربي الذي لم يسجل سوى استعمال الفقهاء والمتأدبين، فهناك معجم الرموز الذي يمثل التاريخ الفعلي، وهو معجم أكمل من المعجم اللغوي. والمعنى إن كنت فهمته حقا هو أن مفهوم الحرية يولد في الذهن ليس بوصفه تعبيرا عن الواقع، بل بوصفه نموذجا لما ينبغي أن يحدث في الواقع. وفي هذه الحالة سيكون مفهوم الحرية مفهوما يوتيوبيا. وبالفعل فالحرية عند العروي هي طوبى الحرية في المجتمع العربي الإسلامي التقليدي. فهو يصرح بأنه لم يثبت في بحثه واقع الحرية، بل أثبت طوبى الحرية”. وهو يرى أن الحلم بالحرية في أي مجتمع مهم لأنه يدل على أنه مستعد لقبول الدعوة إلى الحرية”. فحص العروي معنى الجذر اللغوي للفعل (حرر) ووجد أربعة معان: خلقي، وقانوني، واجتماعي، وصوفي. وخرج بفائدتين: الأولى أن الصيغة المألوفة هي الصفة ومشتقاتها كحر محرر وتحرير. أما المصدر الأصلي (حرية) فيستعمل للتمييز بين من ولد حرا، ومن كان عبدا ثم أعتق. ويعود إلى لسان العرب فحر الرجل مثلا من حرية الأصل لا حرية العتق”. أما الفائدة الثانية فهي أن المعاني الأربعة تدور حول الفرد وعلاقته مع غير ذاته، سواء أكان ذلك الغير فردا آخر يتحكم فيه من الخارج أو قوة طبيعية تستعبده من الداخل. وهكذا يحيل القاموس إلى مجالين يعبران عن النشاط الإنساني: الفقه الذي يحدد كيفية تعامل الإنسان مع الإنسان، والأخلاق التي تصف علاقة العقل بالنفس في ذات الإنسان. لكن ما أحال إلى هذين المجالين في رأينا ليس المعجم اللغوي، بل المعجم الاصطلاحي، وهناك نقل معرفي من المعنى المعجمي إلى المعنى الاصطلاحي، وبالتالي فمبرر العروي ضعيف في كون هذه المعاني تعكس معنى الجذر اللغوي في المعجم اللغوي. ومع ذلك يبدو لي أن عبدالله العروي يريد أن يقول إن مفهوم الحرية لا يملك في المعجم اللغوي العربي أي بنية تعريفية، لكنه في المقابل يملك بنية احتمالية يمكن أن يدرج فيها المعاني الأربعة التي تحيل إلى مجالين يظهر فيهما مفهوم الحرية. وبإمكاني القول إن ما يجمع المعاني الأربعة هو التشابه العائلي إذا ما استخدمت مصطلح الفيلسوف فيجنشتاين؛ فهناك تشابه بين أن توصف المرأة وكذلك الناقة بالحرة أي الكريمة، وبين ما هذا منك بحر أي بحسن في المعنى الأخلاقي، وهو ما ينطبق على المعاني الأخرى القانونية والاجتماعية والصوفية. بحث العروي عن مفهوم الحرية في أبواب الفقه وعلم الكلام. وكما يرى فقد وجد أن المفهوم يندرج في هذه الأبواب تحت مفهوم الحرية الليبرالي. وفي داخل هذا الإطار العام وجد أن مفهوم الحرية يقترب في الفقه وعلم الكلام من مفهوم الحرية كما نعرفها الآن، وهذه الحرية حرية قانونية وأخلاقية لأن الحرية تدور حول الفرد وعلاقته مع نفسه وخالقه وأخيه في الإنسانية. أما مفهوم الحرية كما ورثه العرب عن تصور القرن التاسع عشر فيرى أنه يدور حول الفرد الاجتماعي. والخلاصة أن هناك فرقا بين حرية نفسانية ميتافيزيقية وأخرى حرية سياسية اجتماعية. الأولى في الفكر الإسلامي، والثانية في الفكر الليبرالي، وهذا المفهوم غير موجود في الاستعمال الإسلامي التقليدي. ولأن مفهوم الحرية ذو بنية احتمالية فقد شرع يبحث عن هذا المفهوم غير المستعمل خارج اللغة العربية. وفي هذا السياق يرى أن علينا الآن أن نبحث في أبواب أخرى، تحت تعابير أخرى، على أدلة تقودنا إلى مسائل تهم الحرية وإن عبرت عن ذاتها بكلمات غير كلمة الحرية. علينا إذن أن نبحث عن أدلة أو رموز الحرية خارج الدولة أو ضد الحكومة”. وقد وجدها في البداوة والعشيرة والتقوى والتصوف. لذلك فالتجربة الإسلامية فيما يتعلق بمفهوم الحرية “ أغنى بكثير مما يوحي به القاموس العربي الذي سجل استعمال الفقهاء والمتأدبين. يبقى السؤال الأساسي الذي حان طرحه: هل يوجد مفهوم من دون أي كلمة تدل عليه؟ أقصد إذا كانت البداوة والعشيرة والتقوى والتصوف تجارب في الحرية كما يراها العروي فلماذا لم تُسم حرية أو أي كلمة أخرى تدل على معناها؟ يجب أن أعترف في الحال أن الدليل اللغوي لا يضمن التفسير الصحيح أكثر مما يفعله الدليل غير اللغوي، وأكثر من ذلك أن بعض الدراسات الحديثة في العلوم الإدراكية تقدم أدلة على أن بعض الجوانب في نظرية العقل ليست لغوية. فضلا عن ذلك فقد سمى العروي هو نفسه البداوة والعشيرة والتقوى والتصوف أدلة ورموز الحرية خارج الدولة أو ضد الحكومة، وفهم هذه التجارب في الحرية كأدلة ورموز. لكن هذا غير كاف لتبرير الحرية بالمعنى الذي يجعل من الفرد لاجئا في صحراء أو خاضعا لإقامة جبرية بين عشيرة، أو هاربا من حالة تتجسد فيها الروابط والالتزامات والعمل والواجب في الحياة الاجتماعية، ليعيش علاقة مع ما هو خارجها. 4 هناك آراء جماعية في مفهوم الحرية تعرض في مناسبات ثقافية كالندوات. وفي إحدى الندوات ناقش أربعة عشر باحثا في الفلسفة فلسفة الحرية. ونشرت أعمالها في مجلد كبير. يبدأ المجلد بملخص تلفت النظر فيه هذه الفقرة “ أما فيما يتعلق بالفعل “حرّر” فهو فعل رباعي، وهو فعل متعد له فاعل ومفعول، وليس لازما فعله وفاعله ومفعوله نفس الشيء، فإذا كان خماسيا “تحرّر” فإنه يصبح فعلا لازما، ويعني التحرر بفعل الضمير أي التحرر الذاتي وليس بفعل الغير. وهو المعنى الاشتقاقي نفسه للفظ “حر” أي الحرارة. فالحرية طاقة وحرارة، تبعث على الدفء والحركة والنشاط”. ويبدو أن المفكر المصري حسن حنفي هو الذي كتب هذه الفقرة في الملخص لأنها وردت في الفقرة الثالثة من ورقته في الندوة. وكما نرى فهناك عدم دقة في تحليل أصل كلمة الحرية. فجذر كلمة الحريّة ليس (حرّر) بل (حرّ: ثلاثي مضعف) أي أن جذر كلمة الحرية ثلاثي وليس رباعيا، ومن الناحية الصرفية فالفعل (حرّر) ثلاثي مزيد بحرف واحد (التضعيف) وليس فعلا رباعيا. فضلا عن ذلك فالفعل تحرّر ليس فعلا خماسيا، بل ثلاثيا مزيدا بحرفين، ولا يقول النحويون بأن الفعل المتعدي ما تعدى إلى الفاعل والمفعول، بل ما تعدى إلى المفعول، وعن الفعل اللازم يقولون لازم لأنه لم يتعد إلى مفعول، أي لزم فاعله. وقد أفضت عدم دقة اللغة المستخدمة في تحليل بنية كلمة الحرية إلى عدم دقة الاستنتاجات. وبالرغم من أن الندوة عن فلسفة الحرية إلا أن اللغة لغة أدبية وليس لغة التحليل الفلسفي. وفي السياق ذاته تقول يمنى طريف الخولي “وبالعودة إلى المعنى اللغوي الذي هو الأساس، نجده في العربية قد أكد الخلوص من الاختلاط بالغير (ذهب حر، رملة حرة ...) ويمكن استنباط أن الحرية في العربية تعني الخلوص والأصل الأصيل الذي لا شبهة فيه، فلا مشاحنة في تطويعها فلسفيا فيعني مصطلح “الحرية” الفعل الأصيل في صدوره عن الذات، أي الخالص من جبر أو قسر، فتصبح الحرية الإنسان الخالص إنسانيته من خضوع لقهر أو غلبه أو سيادة تفسد صدور فعله عن ذاته، أو بعبارة أخرى الخالصة إنسانيته من أي حتمية. إن هذا ليسجل لعبقرية اللغة العربية، والحس العرب الإنساني والحضاري، إذ يفوح من معنى حر عندهم كل ما يؤكد النزوع الإنساني إلى اعتبار الحرية جماعا لقدس الأقداس الإنسانية”. لكن الخولي لم تنتبه إلى (حر، حرة) فيما استشهدت به هو استعمال مجازي. فضلا عن ذلك فقد عممت الخولي معنى جزئيا للجذر اللغوي، وهذا المعنى لا يعبر عن الشروط التي تمكن من إدراجه تحت مفهوم الحرية، وإذا كان ذلك كذلك فلا يمكن أن نستنبط أن الحرية في العربية تعني الخلوص من الاختلاط. فحين نقول ذهب حر أو رملة حرة فنحن نسمي ونصف الذهب والرملة غير المختلطين بغيرهما. وإنه لمن الغرابة أن ينتج عن هذا أن يكون معنى الحرية خلوصا من القهر إلخ. ليس هذا تبكيتا بقدر ما هو تدقيق، فما تغفله الباحثة هو أنها تتحدث عن صفة وليس عن مفهوم الحرية الذي لا يشتق من الفعل، بل من الاسم. وقد ترتب على عدم الدقة في تحليل البنية الصرفية لكلمة الحرية أن تحولت لغة التحليل إلى لغة أدبية لا تشبه لغة التحليل الفلسفي. مرة أخرى أنبه إلى أن هذه الحكاية التي سأوردها ليست تبكيتا بل وصفا لهذه الندوة. يروي أنطون مقدسي أنه دعي إلى ندوة تقيمها الجمعية الفلسفية الأردنية، وبدأ يعمل، لكن حين أرسلوا إليه العناوين المقترحة للموضوعات ألغى مشاركته. يقول: “ حين قرأتها شعرت بالخجل، مثل هذه العناوين لا يمكن أن تضعها جمعية فلسفية. وهذا ليس عمل أساتذة فلسفة. لماذا نريد أن نكذب على أنفسنا! لا توجد عندنا فلسفة ولا تيارات فلسفية فما فائدة الادعاء والتخليط! “. وهذا ما يمكن قوله عن هذه الندوة التي أقامتها الجمعية الفلسفية المصرية. 5 هناك اختلافات جوهرية بين هذه الدراسات، لكنني لن أهتم بهذه الاختلافات لأنها تخرج عن حدود موضوعي، وسأكتفي بما يمكن أن أستنتجه منها، ويمثل ما هو أساسي ونافع لموضوعي. فمن جهة أمكن لهذه الدراسات أن تتناول الحرية من عدة منظورات. الأول هو الفرد نفسه بصفته الفرد الحر، الذي يعي أنه حر، وهو منظور مقالة عزمي بشارة. الثاني هو الفرد نفسه، لكن يختلف عن المنظور الأول في كون الحرية تظهر في علاقاته مع الآخرين، وهو منظور دراسة عبدالله العروي. أما المنظور الثالث فهو المفهوم ذاته من دون الفرد سواء أكان واعيا أم في علاقاته وهو منظور دراسة روزنتال. من جهة الأخرى فلست معنيا بالحكم على ما إذا كانت إحدى الدراسات أدق من الأخرى، ولا الحكم على أن إحدى الدراسات أكثر موضوعية من الأخرى. فكل دراسة نظرت من منظور آخر. وكما يقول أوبنهايمر إن للباحثين حرية الاختيار، لكن لا مفر للباحثين من الرضوخ للحقيقة القائلة إن إنجاز بعض الأمور يوجب أن يهملوا بعضها الآخر. وبلغة الاصطلاحات، على الباحثين أن يقرّوا بأن معرفتهم محددة وليست شاملة على الإطلاق. فهناك دائما أمور كثيرة تفوت إدراكهم، ومعظمها لا يستطيعون الإحاطة بها، لأن عملية التعليم ذاتها، وعملية التنظيم والتصنيف وإيجاد معنى للأشياء والتوحيد بينها، ولأن القوة التي تمكننا من الحديث عن الأشياء... لأن كل ذلك يعني أن يترك الباحثون الكثير.