قصيدة «دَعْوةٌ لِعيدِ مِيلَادِ لُوركَا» للشاعرة فوزية أبوخالد..
نص يئن بقضايا الألم وجراح المضطهدين.
الشِّعْرُ مقَاومةٌ وخُلُودٌ، والصَّمْتُ نسيَانٌ وزَوَالٌ يَترَددُ لوركا قَليلاً وبنَشْوة يُقَررُ تَقاسُمَ السِّرِّ العميق لم أرحلْ ولن أرحلَ، لأنَّ رمَّانَ غرناطة لا زالَ يُزْهر لأنَّ استبداد الشَّغَف بالعاشق أقوى مِن استبدادِ السُّلطات بالمُتَّهَم لأنني رشَوْتُ منفذي حُكْمَ الإعدام فرموني بوَرْدٍ بَدلَ الرَّصاص، لأنَّ الوحوشَ تَنْفَقُ والبشر تَفْنى، لم أرحلْ، ولنْ، لأنَّ الاستسلام مَوتٌ والشِّعْرُ خُلُودٌ والحِبْرُ إكْسيرُ الحياة تأتي على الشاعر الإنسان إشراقاتٌ من التفكير، فتنبعثُ شعلةٌ من التأملات، وهي لحظةٌ دقيقةٌ في عمقها وحرجة في استقطابها و متجذرة في تأثيراتها ؛ لأنها اقتناصاتٌ لآمال شريدة، ولأنها استعادات لذكريات عزيزة في النفوس، ولأنها استحضارات لآلام مسبقة، وربما تكون هذه اللحظة ذائعة وشائعة في الحياة العامة أو قاصرة في التجربة الشخصية الخاصة؛ ولذلك ستكون هذه التأملات فردانية ابتداء وإنسانية كونية في مقاصدها، وستصبح هذه اللحظات التأملية ذات خصوصية، فربما تُخْلَق تجلياتٌ تتوحد فيها الذات المبدعة بعوالم شخصيات النصوص تفاعلاً وتشاركاً، وهي لحظة اندماجية حيث يتداخل فيها الخيال مهيمناً على التفكير، فيؤدي ذلك إلى نشوء توهمات لدى صاحب النص أنه على اتصال صوتي أو حتى على تواصل مرئي مع الشخصية المتناولة، وكأن صاحب النص بهذا التواشج والاشتباك سيكوِّنُ للنص معيناً مسانداً وثراء مؤازراً في تقديم الشخصية خير تقديم، يَروي بورخيس في كتابة (صنعة الشعر) عن القس بيركلي، وهو الذي تنبأ بعظمة أمريكا، فيقول: (إنَّ طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها، فالتفاحة بذاتها لا طعم لها، وليس في فم مَنْ يأكلُها، وإنما في التواصل بين الاثنين، والشيء نفسه يحدثُ مع كتاب أو مجموعة من الكتب ، . . . فما هو الكتاب بذاته ؟ الكتابُ شيءٌ ماديٌّ في عالم أشياء مادية، إنه مجموعة رموز ميتة، وعندما يأتي القارئ المناسب تظهر الكلمات إلى الحياة، أو بعبارة أدق، يظهر الشعر الذي تخبئه الكلمات؛ لأنَّ الكلمات وحدها ما هي إلا رموزٌ محضة، ونشهد عندئذٍ انبعاثاً للعالم.) يطرأ في ذهن قارئ القصيدة (دعوة لعيد ميلاد لوركا) تساؤلٌ حقيقي، وهو لماذا توجه الدعوة لعيد ميلاد الشاعر الأندلسي فيدريكو غارثيا لوركا، أو لماذا لا تكون الدعوة لعيد ميلاد بودلير أو حتى رامبو على سبيل المثال ، فهما الأدنيان للشكل الإطاري لقصيدة النثر، وربما تأثيرهما أعلى صوتاً ؟ . ربما تتصدر الإجابة المتصورة والجاهزة، وهي أنَّ لوركا يستحق بسبب النهاية المفجعة والمفاجئة التي آلت إليه حياة الشاعر الكبير، فقد اقتيد عند الفجر بصحبة من ثوار شيوعيين محكوم عليهم بالإعدام ، بعدما قضوا سويعات في سجن لاكولونيا، ثم مضى الحراس بهؤلاء السجناء إلى مكان يُدعَى باسمه العربي (عين الدمعة) حيث أُطلق عليهم الرصاص، ثم دفنت المجموعة سوية، ولم يُعرف للشاعر الأندلسي الشهير قبرٌ منفرد حتى الآن؛ لأنَّ الأجساد قد دفنت جميعها تحت أشجار الزيتون في قبر جماعي واحد ، وكان مصرع الشاعر الشهير سريعاً وانتقامياً، ولكنه أحدث سخطاً عاماً على مستوى الشعراء والمثقفين والجمهور، وكان لإعدامه الدويٌّ الشجي والهائل في أسبانيا والعالم، ولدى أصدقائه ومعارفه وزملائه بخاصة، فكتب الشعراء الكثير من القصائد والمرثيات تأبيناً للفقيد المأسوف عليه، ومن الشعراء الكبار الذين تفجعوا لمقتله الشاعر الكبير بابلو نيرودا، وصديق لوركا الشاعر الأسباني رافاييل آلبرتي، وحتى الشعراء العرب المعاصرين كتبوا لاحقاً عدة مرثيات، منهم نزار قباني والسياب ومحمود درويش، وغيرهم كثير، ولعل أكثرهم استخداما لثيمة لوركا الشاعر عبدالوهاب البياتي بحكم إقامته في أسبانيا، والحقيقة أنَّ مرثية الشاعر بابلو نيرودا التي عنوانها (أنشودة إلى لوركا) تَجُبُّ ما بعدها من كل المراثي العربية، وهي مترجمة بشكل أنيق في كتاب (لوركا شاعر الأندلس) لمؤلفه ماهر البطوطي، ولقد كان لحياة الشاعر فيدريكو غارثيا لوركا حضورٌ ناصع في الشعر العربي الحديث، فكان لوركا ثيمة ثرَّة، وكانت حياة لوركا بئراً ريَّا، إليها يردون ومنها يصدرون مراثيهم وحتى أغانيهم للحياة الكريمة التي كان ينشدها لوركا، كمرثية الشاعر صلاح عبدالصبــور التي عنوانهـــا (لوركا ) : لوركا سَعَفُ العيد الأخضر لوركا حلوى سُكَّرَةْ لوركا قلْبٌ مملوءٌ بالنور الرائقْ وضلوعٌ شفافةْ لوركا صدرٌ عريانٌ من زَبَدٍ ودُخَانْ عَلَمٌ للشُّجعانْ لوركا حُلْوٌ كجَنَى النَّخل الشَّبْعانْ مُرٌّ كمَياهِ البحر الحلْوَةْ وكَمَوْجتُها هَيْمَانْ لعل أفضل توصيف لقصيدة عبدالصبور ما وصف هو به القصيدة الفنية في مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة، عندما قال: ( ولندرك أنَّ على الفنان أن يحدق أشد التحديق في ذاته الأخرى الديناميكية الممتلئة الخصبة بالرؤى والمعارف والخواطر ) ، ولكن لو قارناها بقصيدة بابلو نيرودا ( إنشودة إلى لوركا) لرأينا أنَّ قصيدة عبدالصبور ضمورٌ في الرؤى و بدانةٌ في المعارف والخواطر • نَعُودُ إلى قصيدة ( دعوة لعيد ميلاد لوركا ) ومازلنا أمام تساؤلنا السابق، ابتداء نص الدكتور فوزية أبو خالد لم يدخل نفسه في الخطاب التقليدي العريض الذي جاء في صورة المراثي التأبينية المعهودة في شعرنا العربي، فقط اختلفت لغة الشعر عند الشعراء المعاصرين مقارنة بلغة الشعر القديم، مع بقاء نفس الرؤية التقليدية، فمبلغ الشعرية في القصائد لديهم أنها مراثٍ تأبينية، ولكن قصيدة ( دعوة لعيد ميلاد لوركا ) ذات مداخل اندماجية مع نصوص لوركا نفسه، فالقصيدة تتشارك مع قصائد لوركا في الثيمات والمضامين، وبالذات في القضايا التي تستدعي وعياً إنسانياً، وتستلزم تفاعلاً كونياً وإنسانيا عاماً، فالتناول النصي لديهما مرتكزٌ على حسن الظن بالاعتماد على المألوف اليومي والمتقارب من اليسر والسهولة والبساطة ولكنه يئن بقضايا الألم جراء إجحاف المضطهدين وغمط حقوق الآخر، ويتغلغل بعمق في قضايا حقوق النفس البشرية، والدفاع عن استحقاقات المظلومين ، والاعتماد على حركية الصراع بين ثيمات العدل والظلم والمساواة والعنصرية ، وموضوعات الحرية والتضييق على الإنسانية ، ومضامين الإذلال الخارجي للذوات و قضايا العبودية والعرقية كما في بعض المجتمعات ، والاتجار بالبشر وبخاصة في استغلال الجانب النسوي منها، وهكذا كانت سؤالات نصوص لوركا و إشكالات قصائد الشاعرة الدكتورة فوزية أبو خالد ، فلا غرابة أنْ تلتفت القصيدة هنا إلى هذة المكونات ، وأزعمُ بوجود إجابات ضافية لكل إشكالات هذه القصيدة في نصوص لوركا نفسه ، والسبب أنَّ المنابع الشعرية متشاركة ومتحدة ، فهما يلتقيان في جريانهما الشعري فيكوِّنان مجرى وسياقاً أكثر رفداً للشعر الإنساني العظيم ؛ ولذلك يتشارك الاثنان في ثيمات الألم والموت، ولكنهما يئنان بكتابات ضد الموت، وليس وأداً للموت وإقصائه فحسب، وإنما الدخول في تحديات معه، باستزراع نبت الحياة المقاومة، وباستسقاء ماء الأمل والوجود ، ولعل خير تمثيل لذلك هو مرثية الشاعر لوركا لصديقه الماتدور الأسباني الشهير أخناثيو سانشيز ميخياس لا الثَّورُ يَعْرفُك ولا شَجرةُ التَّين، ولا الخيوُل ولا النَّمْلُ في بيتك، لا الطفْلُ يعرفك ولا المَسَاء، لأنك مُتَّ إلى الأبد، لا أحد يعرفك، لا، لا، غير أني أغنَّي باسمك أغنِّي للأجيال صُورتَك، سَمَاحتَك، النُّضْجَ الشَّهيرَ لحكمَتِك سيمضي وقتٌ طويلٌ، قبل أنْ يُولَدَ من جديدٍ أندلسيٌّ نَبيلٌ مثلُك غَنيٌّ بالمغامرة، أُغَنَّي رَوْعَتَه بكلمَاتِ الأنين إذن كيف ستموت ذكرى إنسان أندلسي يغني لوركا ومازال روعته بكلمات كالأنين؟ ولذلك سيجيبُ لوركا بنفسه عن تساؤلات قصيدة فوزية أبو خالد فيقول في نص ( غزليـة الموت الأسود ) أُريدُ أنْ أَحْلمَ حُلْمَ التُّفَاحَات، أُريد أنْ أنامَ فترةً قَصيرةً فترةً، دقيقةً، قرْناً ومع هذا فليَعْلمْ الجَميع أنني لم أَمُت! وكأنَّ لو ركا يجيبُ باللاءات الثلاث: (لا للاستسلام، لا للرحيل، لا للموت)، ولنتذكرْ مع الشاعرة أنَّ الاستسلام موتٌ، والشِّعرَ خلودٌ، والحبر إكسير الحياة. تحدثنا الشاعرة الدكتورة فوزية أبو خالد في إحدى القنوات على اليوتيوب مجيبة عن تساؤل: (إنَّ حياة العمران البشري جدلٌ بين الألم والأمل، وحينئذٍ يصبحُ لزاماً من مسؤولية الشعراء أن يكتبوا في هذه الموضوعات، وهي ميزةٌ للكاتب والمثقف الحقيقي، وبالنسبة لي ومن خلال التجارب الحياتية فإنني لم أَخُنْ أَلَمي، ولكني في ذات الوقت لم أتناوله تناولاً رثائياً، فلا رثاء للألم عندي، ولا تأبين للأوضاع الاجتماعية لديَّ، ولكنني تناولتُ ألمي كثيمة شعرية بروح المقاومة، فأيـَّاً كان الألم، وأَيَّاً كانت المواجهة فإنني مازلتُ أَجدُ في حبري طاقةً للمقاومة، فلديَّ توأمةٌ بين الألم والكمد والمقاومة . . . )