أساطير الابتكار .

لا أميل إلى قراءة الكتب التي تخبرني بما أعرف، وإن كانت هذه نصيحة جورج أورويل، بأن نقرأ ما يُعزز معارفنا ويؤكدها، وإنما أميل إلى قراءة ما يزعزع معارفي، ويغربل ما استقر عندي، متفقًا مع نصيحة هيرمان هسه بأن الكتاب الذي لا يؤدي دور الفأس في أفكارنا لا يستحق القراءة. هذا الكتاب من جنس ما أحب قراءته، فهو يُعيد النظر في ريادة الأعمال والتصورات الشائعة حولها، ويُفكك الأساطير المحكمة عنها، ويعود إلى أصول الحكايات والأخبار المتداولة عن أساطينها، ليُظهر ما خفي منها، ويسلط الضوء على الهامشي فيها. يشرح أستاذ العلوم الإدارية بجامعة سانت-ايتيان، أنطوني غالوزو، ما يراه بلغ حد الأسطورة حول مصطلح ريادة الأعمال، من خلل سردية أبرز الشخصيات التي تُذكر عندما يُذكر المصطلح: ستيف جوبز، فيتحدث عن مكونات أسطورة رائد الأعمال من خلال الصورة الشخصية النموذجية لستيف جوبز، ويعود إلى ما قبله ليتلمس بواكير نشأة التصورات الأسطورية عن رائد الأعمال عبر التاريخ الأمريكي، وما أدّى إليه هذا التصور الأسطوري من تهميش وتغييب للعمال وسلاسل الإنتاج التي باتت غير مرئية، وكيف تعزز الحكومات هذه الأسطورة من خلال دعم انتشارها وتشجيع الناس عليها، ويختم الكتاب بأفاتار الأسطورة الأخير إيلون ماسك وبدايات أسطرته. يناقش الكتاب، على امتداد مئتي صفحة، مفاهيم مركزية يندر أن تغيب عند أي حديث عن ريادة الأعمال والابتكار، من أمثال قصة البدايات البسيطة والانطلاقة من الكراج إلى العالمية، والدور المنتظر من المبتكر في تغيير العالم نفاذ بصيرته، عن عبقرية المبتكر التي تقوده إلى الفرص النوعية، وكيف يقتدي موظفوه به دون إرادة منهم. على طول الكتاب يناقش المؤلف التفرقة الشائعة بين “رائد الأعمال” و”رب العمل”، أو بين الريادي والرأسمالي، باعتبار المصطلح الأول يدل على المدح والإرادة والتأثير النوعي والعطاء النبيل، بينما يشير الآخر إلى الجشع والإدارة المتسلطة والعمل من أجل الذات، وهو ما يفسر تمسّك الأشخاص بمصطلح “رائد أعمال” وهربهم من “تاجر” أو “رجل أعمال” لما للمصطلحات من دلالات محمّلة، فرجل الأعمال يشغّل مرؤوسين ويتاجر ويضارب، أما رائد الأعمال فهو مبدع خلاق ملهم يترفع عن الاحتمالات الدنيئة للإنتاج والتبادل.   لا يسعى الكتاب إلى تقديم سردية مختلفة عن ريادة الأعمال، قدر سعيه إلى تفكيك السردية الحالية، وبيان تهافتها، وإخفائها الكثير من الحقائق التي تغير صورة الأشخاص في أذهاننا، وأن ما نظنه حالة مثالية وصاحب رسالة نبيلة ما هو إلا امتداد للأساليب التجارية البعيدة كل البعد عن استحضار الحس المجتمعي. دائمًا ما يحضر الحديث عن وادي السيلكون وتجارب شركاته الناجحة ومحاولة تصدير بيئته المعززة للابتكار دون الالتفات للهنّات التي تختفي خلف الملاحم الأسطورية لرواد أعماله، وأمثال هذه الكتب التي تحكي الجانب الآخر من القصة توازن تصوراتنا وتوقعن طموحاتنا وآمالنا.