على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025..
أدباء مصريون يناقشون “ قصص عين قسيس “ لرجاء البوعلي.
يتجدد المشهد الثقافي العربي على موعده في مدينة القاهرة بتاريخها الثقافي العريق، ليتوافد الكُتاب من مختلف أقطار العالم العربي والعالمي نحو معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025، فتنتعش الحركة الثقافية بتوليفات استثنائية نظير زيارة العديد من الجماهير للمعرض في فترته المنعقدة من 23 يناير إلى 5 فبراير 2025. ،وعلى أثر ذلك نظّم صالون غادة صلاح الدين الثقافي ندوة نقدية لمناقشة المجموعة القصصية للكاتبة السعودية رجاء البوعلي “ عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي “ مساء الأثنين الموافق 27 يناير 2025 بمقر مركز تنمية الأسرة والمجتمع بالدقي. وقد شارك في الجلسة النقدية الأستاذ مجدي نصار والكاتبة صفاء عبدالرحيم والدكتور أحمد صلاح هاشم وأدارت الندوة الأستاذ غادة صلاح الدين، التي أفتتحت تقديمها بالوقوف على عتبة الإهداء للكتاب مُشيرة لرؤيته الفلسفية كرسالة تبعثها الكاتبة لجمهور قرائها منذ الوهلة الأولى، وتدير أنظارهم نحو لحظية الإنسان ووقتيته ورحيله المحتوم عبر ومضة أدبية إبداعية سلسة العبور. عن الجدليات الهامة في قصص البوعلي قدم الورقة النقدية الأولى الأستاذ مجدي نصّار مُشيرًا لجدلية عامة بين الفنين السردي والتشكيلي اللذين برزا في قصص “ عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي “ حيث تتحاور القصص بلوحات لفنانيين متنوعين لتعبر عن فلسفة النص ومضمونه، فقد تم اختيارها بعناية واضحة من مدارس تشكيلية مختلفة كالتعبيرية والتكعيبية والسوريالية. الأمر الذي يدفع القارئ إلى تأمل القصة واللوحة بالتوازي تارة، وأخرى بالتناسج بين المؤثِّر والمتأثر، وتتحرك القصص وفق جدليات خاصة منها على مستوى المضمون “ جدلية الأنا والآخر “ و” جدلية الذاتي والعام “، وعلى المستوى الشكلاني الفني “ جدلية الواقعي والأدبي “ و “ جدلية السردي والشعري “ و “ جدلية السردي والتحليلي “ وأخيرا “ جدلية السردي والحواري “. وكما تتبدى سردية الأنا مقابل الآخر في عدة قصص، تتجسد الأنا بصفتيها الذاتية والجمعية ، فقصة “عاملتي الإفريقية “ تمثل محاولة للبحث عن المعنى الإنساني للوجود، بالخوض في فضاء بيني ثالث يصنع هجينًا خاصًا يتموضع بين الثقافتين العربية والإفريقية، وتنهيها البو علي نهاية تتأرجح بين القلبي المتعاطف مع الخادمة والذهني الرافض لخمولها، صانعة بهذه النهاية مفارقة خاصة. أما فنيًا، تتحرك القصص وفق منظومة سردية يتدفق فيها السرد ويتألق فيها الوصف مستعينًا بالشعر، غير أن الحوار يأتي في مواضع ليست قليلة معادلًا للسرد في رصانته. أبرز العناصر الفنية في قصص عين قسيس: قدم الدكتور أحمد صلاح هاشم قراءته النقدية حول العناصر الفنية في قصص “ عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي “ بتحديدها وشرحها كالآتي: المجتمع السعودي وصورة من الداخل تمثل المجموعة انفتاحًا على صورة المملكة العربية السعودية الحديثة مع ما تحمله من تغيير الصورة النمطية لدى المتلقين، عبر التوغُّل في قصص تحمل سرديات من مناطق وطبائع وسلوكيات مختلفة، على أرض بلادها، من وجهة نظر محايدة قدر الإمكان، وإن لم يمكن تخليصها من مشاعر الفخر والوله بالبلاد، انتماء واعترافًا بالجميل. السرد بين الدهشة والانزياح: تبدأ الكاتبة رحلتها السردية بجرأة لافتة، باختيارها لتيارٍ جديد يعتمد على الانزياح الزمني، فلعلها من الثلة الأولى التي اختطت هذا التيار في المسطح السردي حديثًا. ففي حين تُفاجئنا بالمقدمة الفريدة في قصة الخادمة الأفريقية: “على أعشاب ساحل الخليج العربي، ألتفتُّ لأَرَاها مستلقيةً على بطنها”، كمقدمة جاذبة تهدف لتوريط القارئ بها، نجد بداية التعريف بهذه الخادمة الأفريقية في منتصف الأحداث، حيث تستخدم الكاتبة وببراعة سؤال الخادمة عن إمكانية السفر إلى أمها كمُتَّكَأٍ ومدخل لسرد تفاصيل لقائها بها من جديد. هذا الانزياح الزمني ليس تقنية سردية هنا بقدر ما هو حيلة كتابية لتعريف القارئ دون السقوط في فخ المباشرة، ودليل على إمساك الكاتبة بزمام القصة، وقدرتها على تحريك خيوطها ببراعة. كسر التابوهات بين الجرأة والفن: لا يخطئ الناظر أن ثمة تابوهات استطاعت الكاتبة الالتفاف حولها حينًا وكسرها بذكاء وعبقرية فنية. في قصة “نورة”، تطرح قضية المذاهب بشكل غير مباشر، مستلهمةً من رواية “بنات الرياض” التي كسرت تابوهات الكتابة المحافظة التقليدية. لتقول: “ لقد عرفت الآن أن أسوأ فكرة لهذه اللحظة هي فكرة العدم، هشة ومحرضة على الجنون.” تعكس هذه العبارة جرأة جديدة في تناول قضية الموت دون تردُّد أو خوف من الوصم بكونها خالفت الأعراف. ولا تتوقف عند هذا الحد، بل تكسر التابوه الاجتماعي بتساؤلاتها العميقة عن زيارة القبور: “ لماذا نحن هنا؟! لزيارة مَنْ؟ الجسد أم الروح؟ هل الروح غادرت ولم يبق سوى قليل من المادة عديمة الاستشعار؟” هذه التساؤلات تفتح بابًا للحوار حول الممارسات الاجتماعية المتوارثة دون أن تسقط في فخ الخطابية المباشرة. وتظهر جرأة الكاتبة بكسر التابوه الديني الآحادي: “ما أبهى هذا الإله الذي نعبده جميعًا ونقصده بطرقنا المختلفة، وهو موجود بكل مكان يسمعنا بكل اللغات والإيماءات والنظرات”، وهي عبارة تعكس رؤية الكاتبة للإله بنظرة إيمانية كونية لا تقتصر على دين أو مذهب معين. ثمَّ تفتح التابوه الجنسي بذكرها لرأي (عبير) في حرية الجسد باعتباره ملكية خاصة، لا يلزم خضوعها لسلطان القانون أو الشرع. وبلا أدنى شك نعلم أنها محض آراء وليست قناعات، لكن مجرد إخراج هذه الأفكار - وإن رفضتها الكاتبة - إلى حيز النور يتطلب كثيرًا من الشجاعة. ولا تغفل أوجاع النساء ففي قصة “سيدة المكتب الجديدة”، تعرض سؤال الزوج: “ تالين، الساعة تشير لانتهاء دوامك، هل غادرت ِ أم أن أحدهم أوقفك لشيء ما؟ “ لتكلم نفسها: “ أن الشك قاتل للحب، فكيف إذا كان الحب مستحكمل، والشك مستحكم؟! “ ذلك لأن الكاتبة عالمة بأحاسيس المرأة وتمتلك تصويرًا دقيقًا للطبيعة السكيولوجية للأنثى. تداخل الأجناس الأدبية: تمتلك الكاتبة لغةً غنيةً تتنقل بين الشعر والنثر بسلاسة، مما يجعل نصوصها أشبه بلوحات فنية متكاملة. وتوظف قصيدة النثر بداخل نصوصها بما يمثل كسرًا للتابوه الشائع في الأدب المشرقي حول أفضلية القصيدة العمودية و التفعيلة. فيما تتسم قصائدها بالشاعرية الموحية، ما يعني أنها لم تهرب إلى السرد عن ضعف شعري، بل لموضعة النثر بجوار الشعر، لكونه الأصلح للتعبير عن المواقف الإنسانية. المرأة: بين الوجع والتمرد: تتناول الكاتبة قضايا المرأة بوعي شديد، دون أن تسقط في فخ الخطاب النسوي المباشر. ففي قصة “متعة”، نرى المطلقة التي تسعى للنجاة بنفسها من براثن الطامعين، في صورة تعكس الوجع المشترك بين جميع الإناث في المجتمعات الشرقية، بل والغربية بقدر ما. كما تطرح مبادئ التمرُّد النسوي المحسوب في قصة “وجه الليل “ وهي قادرة على حشد في فقرة واحدة ما يمكن أن يحيل إلى رمزية كبرى تحتاج إلى صفحات متعددة، يبرز في قصة “ عطب أمومي “. ومع ذلك فهي لا تستنكف من التصريح بأن المرأة قد تكون متنمرة ومتناقضة ومنافقة، ذلك في قصتي “ كوب شاي “ و “ المشهورة”. أفق التأمل اليقظ في المجموعة القصصية: جاءت الورقة النقدية الثالثة للناقدة الأستاذة صفاء عبدالمنعم، مُدركة قيمة التأمل اليقظ في العمل عند الدخول إلى عالم النص، فلابد أن يكون القارئ متيقظا لكل كلمة وإشارة ودلالة لتدخلنا إلى أعماق النص وتكشف تجلياته وجماليته، سواء الظاهرة بدلالة واضحة أو الخفية من خلال الإشارات، وهنا يكون القارئ مشاركًا وليس قارئًا هامشيًا “ المتلقي السلبي” ، فالنص يفضي بأسراره للقارئ الموسوعي الباحث عن مواطن الجمال، وليس عن الحكاية فقط، اعتبارًا بالعمق النفسي داخل النص، والبعد الزمني والمكاني، الحدث الذي تشكلت منه الشرارة لبناء النص، الواقع الاجتماعي والثقافي والبيئي، الصدام الدرامي أو المأساة، الصراع بين الموروث الراسخ والوافد الذي جاء مع الحضارة والتقدم. وكملمحٍ آخر مهم تأتي المجموعة القصصية بمحاولة التماس من نص (ألف ليلة وليلة) في طريقة البناء (سرد وشعر). أما في القصة المعنونة على الغلاف فتظهر الراوية كـكولمبس الذي دار حول الأرض فاكتشف منطقة جديدة، فقد أكتشفت منطقة جديدة في الوعي الإنساني، كانت مجهولة لولا صفعة السفر بمفردها والتعرف على الجانب الآخر. وتضمنت الندوة النقدية مشاركات متباينة بين الشعري والنثري من قِبل الجمهور، فجاءت كلمة الروائي السعودي حامد الشريف كورقة موازية بما تطرق إليه من الروائي حامد الشريف – رجاء البوعلي – الكاتب أسامة الواصلي الأسلوب السردي للمجموعة، فقد استحضر اعترافات الأديب المصري الكبير احسان عبدالقدوس، بأن بعض قصصه سرديات واقعية من حياته الشخصية غير أن القارئ لاينفك يتماهى معها كقصص إبداعية، مُشيرًا لتأرجح أسلوب الكاتبة البوعلي بين التوثيقية الذاتية والسردية الإبداعية العامة، وهذا ما ألتقى مع ما كتبه الدكتور سعد البازعي حول العمل بقوله: “ في هذه المجموعة القصصية يجد القارئ نصوصًا سردية وأخرى أقرب إلى المذكرات، وهي جديرة بالقراءة لأهمية ما تطرحه من أفكار وما تمتع به قارئها من سرد أنجز باحترافية لافتة “.