في كل قطعة فخارية، تلتقي عناصر الطبيعة مع لمسات صانعها، لترسم حكاية عمرها آلاف السنين، إنها حرفة الفخار، التي تستمد ألقها من عمق التراث، وتكشف عن عبقرية التفاعل بين الإنسان وبيئته، هذه الصناعة التقليدية ليست مجرد تشكيل للطين، بل تجسيد لهوية ثقافية وروح فنية تتجاوز حدود الزمن، وفي إطار احتفائنا بعام الحرف اليدوية 2025، تسلط مجلة اليمامة الضوء على أبرز الحرف التقليدية، وهذه المرة نبحر في عوالم الفخار، حيث يلتقي التاريخ بالفن، وتتجدد حكايات الماضي بلمسات الحاضر. صناعة الفخار في المملكة تُمثِّل صناعة الفخار في المملكة واحدة من أعرق الحرف التي تجسد التفاعل بين الإنسان وبيئته عبر التاريخ، حيث ارتبطت هذه الصناعة بالموروث الثقافي والاجتماعي للمجتمعات السعودية منذ عصور موغلة في القدم. كانت الفخاريات جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية للسكان، تُستخدم في الطهي والتخزين وحتى الزينة. وتعد الأحساء من أبرز المناطق التي اشتهرت بصناعة الفخار على مر العصور، حيث يعود تاريخ هذه الحرفة في الأحساء إلى ما يقارب 600 عام. تُعد «دوغة الغراش» من أبرز الشواهد على هذا الإرث، وكانت العائلات الحساوية تنتقل بهذه الحرفة جيلاً بعد جيل، حيث أبدعوا في تشكيل الأواني باستخدام طين خاص يجلب من مزارع الواحة. تمتاز منتجات الأحساء الفخارية بمتانتها وزخرفتها اليدوية الدقيقة، التي تضيف لمسة فنية لكل قطعة. أما في أقصى الجنوب، فقد أبدع حرفيو جازان في استخدام طين الأودية الجافة المعروف بـ «طين الوادي»، الذي يتميز بجودته وسهولة تشكيله. يُستخرج الطين من التربة المحلية ويخضع لعمليات تنقية وعجن دقيقة. وقد تفنّن الحرفيون الجازانيون في صنع أدوات متنوعة مثل: أواني الطهي، الجرار، وأدوات الزينة. كانت الأفران التقليدية تُستخدم لحرق الفخار، مما يمنحه صلابة ومتانة فريدة. ولا تزال الأواني الفخارية الجازانية تُستخدم حتى اليوم لطهي الأطباق التقليدية مثل المظبي والمندي. أما المدينة المنورة فقد شهدت تاريخًا طويلًا من صناعة الفخار، حيث كان الحرفيون يعتمدون على الطين الذي يُستخرج من الأودية المحيطة بالمدينة بعد موسم الأمطار. كانت هذه الحرفة تُمارس بأساليب تقليدية بحتة، ولا تزال تتوارثها الأجيال حتى الآن، كما أن الرياض كانت، وخاصة في مناطقها القديمة مثل «الدرعية»، تشتهر بصناعة الفخار، حيث كان الحرفيون يستخدمون الطين المحلي لصنع الأواني المتنوعة. وفي القصيم، خصوصًا في عنيزة والبدائع، يشكل الفخار جزءًا من التراث المحلي، حيث كان الحرفيون يصنعون الفخاريات التي تتميز بتقنيات مبتكرة في الأشكال والزخارف. وقد اعتمدوا على طين المناطق المحيطة لصناعة الأواني الفخارية. وفي تبوك كان الفخار يُصنع باستخدام الطين المستخرج من الأودية والجبال المحيطة، وتميزت منتجات الفخار هناك بتصاميمها البسيطة والمتينة، وكانت تُستخدم للطهي والتخزين وكذلك في أغراض الزينة، وفي بعض مناطق عسير، خصوصًا في أبها وخميس مشيط، كانت الأواني الفخارية تُصنع باستخدام الطين المستخرج من الأودية الجبلية، واشتهر الحرفيون بصناعة الأواني الفخارية الملونة التي كانت تُستخدم في المناسبات الخاصة، ولا تزال هذه الحرفة تُمارس في كثيرٍ من مناطق المملكة، ولا تزال تتوارثها الأجيال حتى الآن بوصفها رمزًا للأصالة وتذكيرًا بأيام الماضي الجميل. من الطين إلى التحفة الفنية تبدأ صناعة الفخار بالطريقة التقليدية بجمع الطين من مصادر طبيعية، مثل الأودية ومزارع الطين، ثم يتم تنظيف الطين من الشوائب، ثم يُخلط بالماء ليصبح عجينة لينة يسهل تشكيلها، ويُترك الطين لفترة ليزداد تماسكه، وبعدها يُعجن باليد أو باستخدام أدوات بسيطة مثل المطارق الخشبية لتفريغ الهواء وضمان مرونته، وكان الحرفيون التقليديون يعتمدون على عجلة الفخار اليدوية لتشكيل القطع، وهي أداة تُدار بالقدم أو اليد، وتُمكِّنهم من نحت الأواني بأشكال متناظرة ومتقنة، ثم تُترك القطع المشكّلة لتجف تحت الشمس، ثم تُحرق في أفران بدائية مصنوعة من الطين أو الحجر، حيث تُشعل بالنار المباشرة لتعزيز صلابتها. مع تطور الزمن، دخلت التقنيات الحديثة لتحسين كفاءة الصناعة دون فقدان اللمسة التقليدية، ففي المرحلة الحديثة تُستخدم آلات متقدمة لعجن الطين وتنقيته، ما يوفر جهدًا كبيرًا ويُحسن جودة العجينة، كما استُبدلت عجلة الفخار اليدوية بعجلات كهربائية تتيح للحرفي العمل بدقة أكبر وسرعة أعلى، أما الأفران فقد تطورت إلى أفران كهربائية أو غازية ذات تحكم حراري دقيق، مما يضمن توزيعًا مثاليًا للحرارة ويمنح القطع متانة فائقة، أما الزخارف اليدوية التي كانت تُصنع بأدوات بسيطة كالعصي والأمشاط الخشبية، تطورت لتشمل أدوات أكثر دقة وتقنيات الطباعة الرقمية، ومع ذلك لا تزال بعض المراحل التقليدية تُمارَس في الورش الحديثة، خصوصًا في صناعة القطع ذات الطابع التراثي، حيث تُعتبر جزءًا من الهوية الفنية والثقافية التي تجذب المهتمين بالمنتجات اليدوية الأصيلة. زخرفة المسطحات الفخارية تُعد زخرفة المسطحات الفخارية والخزفية من أبرز الحرف اليدوية التقليدية المكلمة لصناعة الفخار، حيث تمزج بين المهارة اليدوية والذوق الفني، لتُضيف للمنتجات الفخارية قيمة جمالية تتكامل مع وظيفتها العملية. وتعتمد هذه الحرفة على تقنيات يدوية متوارثة، حيث يعمل الحرفي على تزيين المسطحات باستخدام أدوات حفر ونحت دقيقة مصممة خصيصًا لهذا الغرض، وتتنوع الزخارف بين الأشكال الهندسية والنباتية المستوحاة من البيئة المحلية، حيث تميل إلى البساطة والرمزية، ومن بين الأساليب التقليدية التي اشتهرت في الزخرفة، يأتي أسلوب «التمشيط»، الذي يعتمد على تشكيل خطوط وأشكال هندسية مثل الخطوط الأفقية والعمودية أو الأنماط المموجة التي تضفي حيوية وأناقة على القطعة الفخارية. تُستخدم في هذه الحرفة مواد طبيعية بسيطة، مثل الطين والماء لإعداد القاعدة، إلى جانب الألوان التي تُستخدم لإبراز التفاصيل الجمالية. وعلى الرغم من اعتمادها على تقنيات تقليدية، فإنها تشهد تطورًا مستمرًا بفضل جهود الحرفيين، الذين يحافظون على هذا الفن التراثي في محافظة الشرقية، حيث يظل شاهدًا على مهارة الإنسان السعودي في تحويل المواد الطبيعية إلى قطع فنية نابضة بالحياة، تعكس روح الأصالة والتجديد. هوية ورمز ثقافي على الرغم من التحديات التي تواجه صناعة الفخار في المملكة، مثل صعوبة الحصول على المواد الخام في بعض المناطق وصعوبة الحفاظ على المهارات التقليدية في ظل التقدم التكنولوجي، فإن هذه الصناعة قد نجحت في البقاء والتطور بفضل جهود الحرفيين السعوديين المتفانين، فقد استطاعوا الجمع بين الأصالة والحداثة، حيث يتم تطوير الأدوات والتقنيات المستخدمة في صناعة الفخار، مع الحفاظ على الملامح التراثية التي تجعلها فريدة ومميزة. ومن خلال التنسيق بين الحرفيين والمؤسسات المعنية، أصبحت المنتجات الفخارية السعودية تحظى بشهرة داخلية وخارجية. إذ بات الفخار السعودي لا يُعتبر مجرد صناعة، بل رمزًا ثقافيًا يعبّر عن هوية المملكة العريقة، ويُعتبر اليوم من الهدايا التراثية التي يقبل عليها السياح والزوار من مختلف أنحاء العالم. وفي إطار رؤية المملكة 2030، تعمل المملكة على تطوير هذا القطاع، من خلال استراتيجيات تهدف إلى دمج التراث مع الابتكار، وتمكين الحرفيين من الوصول إلى الأسواق العالمية، هذا التوجه يضمن استمرارية صناعة الفخار، بما يتماشى مع متطلبات العصر، دون أن يفقد ارتباطه بالجذور الثقافية العميقة، لتبقى صناعة الفخار شاهدةً على عبقرية الإنسان السعودي في تسخير الطبيعة وتحويلها إلى فن عريق يعكس هويته الثقافية وروحه الإبداعية، ممتدة من التراث القديم إلى الحداثة، ولتكون إحدى ألوان الفخر التي تزين المشهد الحضاري للمملكة على المستوى المحلي والعالمي.