قراءة في مجموعة «مذكرات آخر فئران الأرض» القصصية لموسى الثنيان..

وحدة المحور وثراء المفارقة وجماليات الفانتازيا والاستلهام والإمكانات الروائية.

هذه مجموعة متميّزة من حيث الموضوع والرؤية؛ فهي تتمحور حول كائن غير بشري من أصغر وأحقر المخلوقات ، يُعالَج من وجهة نظر مختلفة عمّا ألفناه من موروث سرديّ جاء معبّراَ عن الدهاء و الذكاء في كتاب(كليلة ودمنة) فغالبًا ما يتغلب الفأر على خصومه من الحيوانات الأكبر حجمًا بفضل دهائه ومكره ،و يُستخدم الفأر لتجسيد الكائنات الصغيرة والضعيفة التي تخاف منها الحيوانات والبشر رغم ضآلة حجمها ،الفأر في الموروث السردي العربي ليس مجرد حيوان صغير، بل هو كائن رمزي يحمل دلالات متعدّدة تمتد من الذكاء والحيلة إلى الضعف والتخريب. هذه الدلالات تُظهر تنوّع استخدام الفأر كرمز ثقافي،و لم تغب الصلة بين هذه المجموعة وما وصل إلينا من كتب تتحدث بلسان الحيوان سواء في العصور القديمة ، كتلك التي وردت على لسان أمية بن أبي الصلت حكاية الحمامة التي كرمها النبي نوح عليه السلام ، وأسطورة الديك و الغراب وغيرها، مثل كليلة و دمنة أيسوب وحكاياته،وفي كتابه “الحيوان” يقدم الجاحظ قصصاً وطرائف ، وهناك العديد من القصص الحديثة المكتوبة باللغة العربية على لسان الحيوانات، سواء نثرًا أو شعرًا كما في رواية “سيرة حمار” للكاتب حسن أوريد، يتم السرد على لسان حمار يُدعى أذربال، الذي يروي تجربته الإنسانية بعد تحوّله إلى حيوان، كما أن الشاعر محمد عثمان جلال قدّم في ديوانه “العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ” قصصاً على لسان الحيوانات، مستوحاة من حكايات لافونتين، حيث تُعبّر الحيوانات عن حِكم ومواعظ إنسانيّة. وكذلك هذه الأعمال تُظهر كيف يمكن استخدام السرد على لسان الحيوان لنقل رسائل إنسانية واجتماعية بطرق مبتكرة.، كذلك في القصص الشعرية التي نظمها أحمد شوقي على لسان الحيوان. وقد أشار المؤلف في المقدمة التي كتبها لمجموعته هذه إلى قصص الجاحظ، وإلى ما جاء على لسان أحد المتحدثين نبذة عن (أدب الفئران) وفي ضوء ذلك يمكننا قراءة كيفية تناوله في بعض النصوص والأعمال. في الأدب العربي الحديث تتناول الفأر في مواضع متعدّدة، سواء كرمز أو كعنصر في القصص والروايات أو في الشعر، وهو في هذه المجموعة يأخذ ألوانا متعددة غير مطروقة ؛إذ يأتي في سياق السرد المألوف تعبيراً عن رؤية اجتماعية ، بوصفه حيوانا مؤذياً ولكنه يوظف في إطار السرد ليعبر عن فلسفة الحياة كما في أولى قصص المجموعة (جناب المحترم ) عبر مفارقة يقوم بتشكيلها الكاتب ليعبّر عن طبيعة الكينونة البشرية وتحوّلاتها عبر الزمن وانعطافاته المتعددة السياقات ، وغروره بالمنصب و الجاه ، فيصطنع الكاتب الحلم في شكل أُمثولَة رمزيّة يتماهى فيها الواقع و الحلم بوصفه ظاهرة سيكولوجيّة ، تستقريْ مافي الوعي، والفجوة الشاسعة التي تتكون ما بين الماضي والحاضر وصيرورة الحياة من ناحية ؛و اختلاف الموقع والنظرة التي تنهض بها وقائع التاريخ من ناحية ثانية ، مُتّخِذاً من (فأر ماغاوا) نموذجاً، وفي هذا السياق تأتي قصة (للفئران ضرورة أحياناً) حيث المفارقة في الطبائع و المواقع وتحوّلات النفس البشريّة والدور الذي يلعبه الإطأر بوصفه من المخلوقات الحقيرة المؤذيَة في التأثير على المواقف البشرية،وإبراز أهمية المنظومة القيميّة في حياة البشر؛ فما كان يمثله الحاج نادر صاحب الدكان في هذه القصة من تعالٍ وظلم إزاء (عادل) الفقير الذي أوشك أن يحرمه نادر من شراء حاجياته ديْناً كما كان يفعل مع غيره ممن كانوا يتأخرون في سداد دينهم ؛ وعلى الرغم من محاربته المستمرّة للفئران فإنه يُهزم أمام العدالة الإلهية التي سخَّرت أضعف الكائنات وأحقرها لكي يقرض دفتر المديونيات فيُضطر نادر إلى إلغاء الديون كلها ؛وقد وظف الكاتب الأسماء التي اختارها (نادر) وعاد ليوحي بالفكرة عبرتضادّ الثُنائيات. ويحلق في نموذج آخر في آفاق تأمليّة فلسفيّة تكاد تلامس سقف الفانتازيا أو تتقاطع معها حين يسلط الضوء على مشاهد ثلاثة في قصته الموسومة(فتمخض الفأر) مشهد إطاري (الجار الذي يرقب جاره) ويروي قصته بمشاهدها الثلاثة : في شكل بروتريه لبطل القصة تقدم ملامحه العامة (الهيئة النحيلة و الشنب الأشيب و القبعة الخضراء العتيقة وركوبه للدراجة وعدم استكمال دراسته و ملاحقة القطط و الكلاب) فهو محل شفقة ومن ثم عبوره المحيطات المكانية الثلاثة : الحديقة و المقبرة و الغابة ؛ بفضاءتها التي تنطوي على ثلاث لوحات حيّة : (العائلة و الطفلة والفراشة) و(الجنازة والمشيعين الباكين ) و (الفئران في حضن الجبل ) وهي بنيات تكوينيّة مترابطة تعكس موقفاً و رؤية عميقة من خلال شبكة العلاقات التي أقامها بين هذه اللوحات الثلاث وانتهت بالفئران التي تمخضت عن الجبل في مفارقة واضحة للمثل القائل “ تمخض الجبل فولد فأراً” حيث توحي له هذه المشاهد التي تنتهي به إلى الكهف في حضن الجبل الذي تخرج له فيها الفئران وتحيط به الطبيعة البكر بطيورها وكائناتها؛ فتوحي له بالكتاب الذي يحمل نص المثل معكوساً ؛ دون أن يتخلّى عن جوهر جماليات القصة القصيرة في تصوّيرها للمآزق و التوتّرات منتهية بالانفراج في (لحظة التنوير) فضلاً عن الحمولة الفلسفية و العمق الرؤيوي ، تقاطع المشهد المأساوي من منظور الجار والمتعة النفسيّة الجمالية عبر الشروع في الكتابة من قبل البطل . يوظّف الكاتب الفأر التي تمحورت قصص المجموعة حوله على نحو آخر حين يجعله معنىً في سياق المثل ؛دون أن يغادر الدائرة الدلالية التي يتحرك عبرها في الوعي الاجتماعي ، فالمكانيزم الذي ينبئ بالتحولات المفصليّه يرهص به الفأر في سياق المثل (لعب الفأر بعبي ) إرهاصاً بوقوع الحدث المهم ؛ فحدث شقّ الشارع الذي سيفضي إلى (مفارقة شجر البمبرة العتيدة ؛ الأيقونة التي ترمز إلى العراقة) وترتبط بالتاريخ الاجتماعي للمنطقة والملمح الوجداني ل(معصومة) بطلة القصة الشاهد على مختلف جوانب حياتها و ممارساتها طيلة حياتها مهدّدة بالزوال ، كما تنبّئها هواجسها التي عبرت عنها بالمثل القائل (لعب الفأر بعبي) وأعادت تكراره حين أنبأها زوجها بلون آخر من الوان الصدمة وهو تعديل الطريق ليفضي ذلك إلى فراقها لجارتها التي عاشت معها ذكريات حياتها (أم حسن) لأن الشارع سيأتي على منزلها ؛ وهنا تساوت محنة فقد الشجرة و الجارة ليومئ الكاتب لفلسفة العشرة سواء كانت مع الإنسان أو الأشجار، أي تكتسب هذه الكائنات المكانة ذاتها، حيث تتساوى المخلوقات بأنواعها كافة من حيوان ونبات وإنسان في موضوع الألفة ؛ والمحرك الرئيس لذلك كلّه التحوّل هو أحقر المخلوقات معنىً مجرداً وكائناً حاضراً ، من هنا كان الختام دعاء معصومة يقرن بين الشجرة و الصديقة في ختام القصّة “ يا رب الشجرة و جارتي” وقد جمع بين المظهرين : الوجود الوظيفي الفاعل للفئران والصورة المتخيّلة لها كما في المثل الشعبي في قصة (ماكينة بدرية) وقد بدا واضحا أن الكاتب يمتلك نفساً سرديّاً طويلاً في هذه القصة و ما سبقها من قصص ؛ فقد تكوّنت من عدة مفاصل ؛ كل مفصل منها يمكن أن يطوّره الكاتب بشيء من التفصيل و التفريع فيتحوّل إلى فصل روائي ، فالشخصيات متعدّدة والأحداث كذلك وتنمية كل منها ممكنة (غرفة الخياطة وهي غرفة النوم في الأصل) محيطاً مكانيّاً وما توحي به ، وما يمكن أن يتخيّله الكاتب فيها من علاقات ، ثم تحولها إلى مخيطة تستقبل فيها الزوجة النساء والدوافع وراء هذا التحوّل وما يمكن أن تنتجه من سرديّات تتطوّر و تتعالق ، ثم ردود فعل الزوج وخيالاته وارتباطها النفسي و الاجتماعي وما ينجم عن ذلك من حكايات ، ثم رغبة الرجل الشهوانيّة ومايتمخض عنها وما يمكن أن ينسج حولها ؛ ثم المفاجأة الصادمة التي كانت بمثابة لحظة التنوير حين اكتشفت أن الفئران قرضت الفستان الذي كان مثار الاهتمام ومحور الحكاية والكشّاف الذي فضح السرائر ؛ وكأن الفأر هو البطل الذي أماط اللثام عن الحقائق النفسيّة التي التي حكمت العلاقات الأسرية. كانت المفارقة الصادمة صوت الماكينة المزعج اختفى و سُدَّت أبواب الرزق نتيجة عمل الفأر المؤذي الذي يبدو معادلاً رمزيّاً للعقاب الإلهي على هذا الانحراف الأخلاقي و الفعل المشين . ثمة قصص أخرى يلعب فيها الفأر دوراً آخر ؛ فهو محور القصة ومفتاح الرؤيا ؛إذ تدور حوله الحكايات و تنسج الأساطير في قصة (الحائط الطيني المليئة بالمفارقات ؛ فالفأر يسرق ثروة الجد من الذهب وفي الوقت ذاته يجعلها في مأمن من السرقة و يدّخرها للوريث ، فضلاً عن مفارقة آخرى هدم الجدار وصولاً إلى الثروة المأمولة وخيبة الأمل في ضآلة الكنز المنتظر و الانتهاء إلى الكارثة ، فضلاً عن الكشف عن هَوَس الطمع و المغامرة بالبيت الذي تم تقويضه نتيجة لذلك ، هذه السلسلة من المفارقات تشكّل البنية الجمالية في القصة ، و تنطوي على إمكانات سرديّة ثريّة يمكن أن تتحول إلى رواية بما تتضمنه من إمكانات تحوّل الوقائع إلى فصول روائية ؛ إذ يمتلك الكاتب نفساً سرديّاً طويلاً . وفي منحى آخر يستنطق الكاتب الفأر فيدير حواراً طويلاً بين الباحث الاختصاصي الذي عقد العزم على تشريحه ، وهو من فئران التجارب على نحو فانتازي مُتخيّل يفضي من خلاله بمعلومات حول استخدام الفئران في التجارب المعمليّة دون غيرها ، ويلفت الانتباه إلى مفارقة هامة تزدَوج فيها المفارقات بين ضرر الفئران وحقارتها وأهميتها في الكشوفات العلمية ،و فتح آفاق التأويل أمام مسألة التشابه بين دماغ الفأر ودماغ الإنسان. وفي القصة الأخيرة (فأر اسمه الخلد) يستوحي الكاتب التاريخ و التراث الديني ، ويوظّف الحلم و الفانتازيا ، و يدير حوارا بين الإنسان و الفأر و يوحي برؤية فلسفية بالغة العمق من خلال التماهي بين الماضي و الحاضر في حادثتين كبريين : قصة خروج آدم من الجنة وانهيار سد مأرب ، وينطق الفأر بالعبرة والعظة : إن الله تعالى جعل سرّه في أضعف خلقه. مجموعة تكشف عن طاقة إبداعية وخيال واسع وقدرة على الاستلهام و الاستثمار تتمحور حول الفأر أحقر المخلوقات وأكثرها احتفالا بأسرار الوجود.