التعليم.. صراط التنمية.
مر”التعليم” عبر التاريخ بمراحل مختلفة تعكس تطور البشرية واحتياجاتها. ففي العصور البدائية اعتمد “التعليم” على التقليد والملاحظة، حيث يتعلم الأفراد مهارات الصيد والزراعة وأعمال الحرف. أما في الحضارات القديمة - السومرية والبابلية - فقد كان “التعليم” نخبويًا إلى حد كبير، حيث اقتصر على الكَهَنَة والكَتَبَة، مع استخدام الألواح الحجرية وورق البردي. وركز “التعليم” في تلك الحضارات على المعتقدات والفلك والقانون. أما اليونانيون، فقد كانت اهتماماتهم متركزة على الفلسفة والخطابة، وفي “روما” ركز “التعليم” على السياسة والقانون. في العصور الوسطى ظهرت الجامعات الأولى مثل “جامعة بولونيا” في شمال إيطاليا عام 1088م و”جامعة السوربون” في باريس عام 1150م. أُنشئت المدارس والمكتبات العامة، مثل “بيت الحكمة” في بغداد، حيث كان “التعليم” في المنطقة العربية يشمل الفقه والعلوم الطبيعية والفلك والفلسفة، مع التركيز على اللغة العربية. وبسطوع شمس العصر الحديث، وتحديدًا في عام 1440م، اخترع المهندس الألماني “يوهان جوتنبرج” الطباعة باستخدام الحروف المعدنية المتحركة، وساهم هذا التطور في نشر الكتب وجعل “التعليم” أكثر انتشارًا. وقد شهد العصر الحديث ثورة تعليمية بفضل التكنولوجيا الحديثة وأدوات “التعليم” الإلكترونية والإنترنت والذكاء الاصطناعي. ويبدو أن المستقبل يحمل المزيد من التغيير، مع تربع “التعليم” على المسرح مدى الحياة. في العصر الرقمي، أصبحت التكنولوجيا الحديثة وسيلة لا غنى عنها لتطوير “التعليم”. فالذكاء الاصطناعي، والمنصات الإلكترونية، وإنترنت الأشياء تحدث جميعها تغييرًا جوهريًا في كيفية التعلم والتعليم، ومع ذلك، فإن هذه التغيرات تضع تحديات جديدة أمام الدول النامية، حيث تحتاج هذه الدول إلى تطوير بنية تحتية تقنية، وتعزيز المهارات الرقمية للمعلمين والطلاب على حد سواء. وهناك مبادرات ناجحة تلهم العالم - على سبيل الإشادة لا الحصر “مبادرة مسك الخيرية” في “المملكة العربية السعودية” التي تمكن الشباب من خلال برامج تعليمية مبتكرة لتعزيز فرصهم الوظيفية والاستثمارية، وربط “التعليم” بسوق العمل المحلي والدولي. وهناك مبادرة دولية أخرى لابد أن تؤخذ بعين الفحص والدراسة، إنها أكاديمية “خان أكاديمي Khan Academy” التي طورها “المهندس سلمان خان” أكاديمي أمريكي من أصل بنغلاديشي، والتي تهدف إلى تقديم تعليم مجاني وعالي الجودة لأي شخص في أي مكان في العالم، وهي تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة لتوفير محتوىً تعليمي حديث بأسلوب مبتكر وشامل، وتعتمد هذه المبادرة على مفهوم التعلم الشخصي، حيث يمكن للطلاب اختيار المواد التعليمية حسب ظروفهم الخاصة، إنها مثال بارز على كيفية تسهيل التعليم الإلكتروني الوصول إلى ملايين الطالبات، والطلاب حول العالم. على الرغم من التقدم الذي حققه “التعليم” في العصر الحديث، إلا أنه لا يزال يواجه تحديات كبيرة في أنحاء كثيرة من العالم. فهناك ملايين الأطفال يهيمون خارج أسوار المدارس، شُعث الرؤوس ، ممزقي الثياب بسبب الحروب المسلحة، والنزاعات الإثنية، والصراعات الطائفية المشؤومة، إضافة إلى تفشي الفقر المدقع، خاصة في أواسط أفريقيا، وفي أنحاء كثيرة من أمريكا اللاتينية ومناطق واسعة من آسيا، حيث تشير تقارير “منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة - اليونسكو” إلى أن حوالي (244) مليون طفل وشاب في العالم لا يزالون خارج النظام التعليمي، ما يمثل تحديًا كبيرًا لتحقيق التنمية المستدامة. كما تعاني الدول النامية من فجوة متزايدة في جودة “التعليم” مقارنة بالدول المتقدمة. “التعليم” ليس مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة فحسب، بل هو الأساس الذي تقوم عليه نهضة الأمم وتطورها. فمن خلال “التعليم” تتحقق العدالة الاجتماعية، وبواسطته يكتسب الأفراد فرصًا متساوية للنمو والإبداع. كما يلعب “التعليم” دورًا مركزيًا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) ، لا سيما “الهدف الرابع” الذي يدعو إلى ضمان “التعليم الجيد” والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة. ومن خلال “التعليم” يمكن محاربة الفقر، وتحسين الصحة العامة، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وبناء مجتمعات قادرة على مواجهة التغيرات المناخية والاقتصادية الحادة. وبناءً على كل هذا وذاك فقد أعلنت “هيئة الأمم المتحدة” يوم 24 يناير من كل عام، يومًأ دوليًا للتعليم، ليكون مناسبة سنوية مهمة تتجدد فيها الدعوات للاعتراف بالدور الحيوي الذي يلعبه “التعليم” في بناء مجتمعات آمنة ومطمئنة، ووسيلة حاسمة لتعميق التفاهم بين الأمم، وأداة فعالة لتكريس السلام العالمي. وفي هذا اليوم يجدر بنا الالتزام بتعزيز “التعليم” باعتباره الصراط المستقيم للتنمية، وهو السبيل الوحيد لتحقيق عالم أكثر عدلًا واستدامة. وهنا يتحول “التعليم” من حلم بعيد المنال إلى حقيقة واعدة لكل طفل محروم، ولكل شاب مشرد حول العالم. دعونا نعمل يدًا بيد لتحويل هذا الحلم إلى واقع يسهم في تحقيق التنمية المستدامة وبناء مستقبل أفضل للجميع.