وقفات وخواطر مع مذكرات جميل الحجيلان (3 - 5) ..

هل خُذِلَ حُلُمُ المؤسسات الصحفية ؟

شهد النصف الأول من ثمانينيات القرن الهجري الماضي- الستينيات الميلادية- حرباً- بل حروباً- إعلامية شعواء في الشرق العربي، أدواتها الإذاعات في المقام الأول ثم الصحافة، بما فيها الصحافة اللبنانية التي كانت صحف ومجلات كثيرة منها منخرطة في تلك الحرب، بالوكالة عن بعض الدول العربية المتبارزة: مصر والعراق وسوريا... وتجاوزت تأثيرات تلك الحرب الإعلامية التي وظفت فيها أفكار وشعارات فكرية وأيديولوجية مختلفة الدول الثلاث المشتركة فيها لتطال المملكة والأردن وإمارات الخليج العربي واليمن. تلك الحرب الإعلامية والأحداث الكبيرة التي أججتها، مثل تهديد عبدالكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق وانفصال سوريا عن مصر والإطاحة بنظام الإمامة في اليمن وتورط مصر المتعاظم في الحرب فيها والانقلابات المتعاقبة في العراق وسوريا خلال عام 1963 م... أظهرت غياب دور الإذاعة السعودية وتواضع أداء الصحافة السعودية وعدم قدرتها على الوصول إلى الجمهور في الدول المجاورة للمملكة والمحيطة بها والنفاذ إلى الرأي العام فيها. من جانب آخر كانت الصحافة العربية المستوردة- من مصر بالدرجة الأولى ولبنان في المرتبة الثانية- تستحوذ على حصة كبيرة من القراء في المملكة. ومع توقف ورود الصحف المصرية من مصر والصحف اللبنانية المدعومة من مصر في لبنان ابتداءً من أواخر عام 1961 م، أصبح المتاح للقراء السعوديين محصوراً بالصحف السعودية وبعض الصحف اللبنانية، ولاحقاً بعض الصحف الكويتية، بعد فترة إلغاء للصحافة الأهلية فيها دامت ثلاثة أعوام. ولاحقاً- منذ منتصف التسعينيات الهجرية- السبعينيات الميلادية- وعلى مدى أربعة عقود تقريباً، شهدت البلاد ظاهرتين كبريتين: انفجار إعلاني كبير عمت فوائده الصحف والمجلات السعودية ومؤسساتها، وتضخم أعداد الصحف والمجلات العربية المستوردة التي وجدت في السوق السعودية منجم ذهب إعلانياً ومن حيث المبيعات، قبل أن يبدأ العد التنازلي العكسي المتسارع الذي أحدثته الثورة الرقمية في مجال الصحافة والإعلام، منذ أواخر القرن الميلادي الماضي. وعودة إلى مذكرات جميل الحجيلان، أقول إنه بعد تأسيس وزارة الإعلام وتعيين جميل الحجيلان وزيراً لها تسارع العمل في إيجاد حل يُعين الصحافة السعودية على التغلب على المعوقات التي حالت دون تطويرها والارتقاء بمستواها؛ على نحو يرضي القراء ويجذب المزيد منهم، ويستجيب لتطلعات قيادة البلاد، وطبعاً تمكينها من القيام بالدور المنتظر منها وقت الأزمات، وقبل إعلان الدولة عن قرارها بإلغاء صحافة الأفراد وتطبيق نظام المؤسسات الصحفية، كان الحجيلان في قلب مخاض ذلك التحول الكبير- منذ تعيينه وزيراً للإعلام بالأمر الملكي رقم 57 وتاريخ 4/11/1382 هـ، الموافق 29/3/1963 م، وحتى الإعلان عن النظام الجديد في وسائل الإعلام المحلية شهر شعبان 1383 هـ، الموافق لشهر فبراير 1964 م. اجتماعات ومراسلات ومفاوضات مع كافة مالكي الصحف والمجلات وزيارات لهم في مقرات صحفهم؛ رويت منها ما يخص مؤسسة اليمامة الصحفية وتفاصيل مراحل تفاهمه ومخاطباته ولقاءاته بشأن تأسيسها مع الشيخ حمد الجاسر في كتاب “حمد الجاسر ومسيرة الصحافة والطباعة والنشر في مدينة الرياض” (ص. 337-361). وقد نشرت في الصحافة المحلية خلال عامي 1383 و1384 تفاصيل متفرقة عن لقاءاته مع عدد من رؤساء تحرير الصحف وأصحاب امتيازاتها؛ وكم تمنيت لو أن تلك المرحلة قد وثقت ونُشرت في كتاب مستقل. ولم يخلُ ذلك المخاض الصعب والشائك بحساسيته- لصلته بفئة عالية الثقافة من كبار أدباء وكتاب وصحفيي المملكة- من بعض المفارقات والمثبطات للوزير الحجيلان، الذي أوكل إليه الأمير فيصل- نائب الملك آنذاك ثم مليك البلاد بعد بضعة أشهر- مسؤولية الإشراف على ذلك التحول الإعلامي الكبير، وإن كان لا يسع هذه الصفحات ذكر معظمها فسأكتفي بإيراد مثال واحد منها. ومن ذلك تلك الافتتاحية التي كتبها رئيس تحرير صحيفة “البلاد” الأستاذ عبدالمجيد شبكشي- رحمه الله- بعنوان: “صحافتنا لن تتحول إلى نشرات”، العدد 1812، في 11/8/1384 هـ، الموافق 13/1/1965 م، التي ورد فيها الآتي: “نشرت جريدة الندوة الغراء أمس للأستاذ عبدالعزيز مؤمنة تعقيباُ على ما كان نشره الزميل الأستاذ محمود عارف عن وقائع اجتماع معالي وزير الإعلام (مع رؤساء تحرير الصحف).. وبالذات عما أشار إليه من أن الصحفيين قد تقدموا إلى معاليه برجاء قيام الوزارة بجمع المعلومات الثقافية والخبرية لأحداث العالم واختيار ما يصلح للنشر منها.. مما يتفق وسياسة الحكومة.. ثم إمداد الصحف بها على شكل نشرات أو تقارير (لتنشرها). وقد كنت أتوقع أن تبادر الجهة المعنية- يقصد الوزارة- فتقول كلمتها، ولذلك آثرت ألا أعقب بشيء.. حتى جاء الأستاذ عبدالعزيز مؤمنة فاستنكر أن تصدر هذه المقترحات من أعضاء مؤسسات صحفية المفروض فيهم أن يكونوا مؤهلين لممارسة مثل هذا العمل التوجيهي الهام ...”. وبقية الافتتاحية استنكار لمثل ذلك الطلب ورفض له وتأكيد على أن أعضاء المؤسسات الصحفية لا يرغبون في أن يجعلوا من الصحف في بلادنا مجرد نشرات رسمية تختلف عناوينها ولا تختلف موضوعاتها، موضحاً أن الوزير قد “استبعد ذلك الاقتراح لاعتبارات كان من أهمها ...هو أن تترك للصحافة الحرية فيما تنشره ...”. وما تقدم يطرح تساؤلاً عما إذا كان قد فُكر في تأسيس وكالة وطنية للأنباء أم إن المشاريع الإعلامية الكبرى- تقوية إرسال الإذاعة وتطوير إمكانياتها وأدائها وتأسيس التلفزيون السعودي بمحطاته في مناطق المملكة وتفعيل تواصل المملكة مع وسائل الإعلام الخارجية...- لم تتح التفكير في ذلك. وقد عَبَّرَ بعض القراء والكتاب خلال تلك الفكرة عن الحاجة إلى مثل تلك الوسيلة الإعلامية، ومنهم عبدالرحمن القاضي في صحيفة “قريش”- “ وكالة أنباء” في العدد الصادر في 18/6/1383 هـ- وعبدالعزيز العمران- “وكالة سعودية للأنباء”، “الجزيرة”، العدد 7، في 3/4/1384 هـ، الموافق 11/8/1964 م-. لم يكن الهدف من تحويل صحافة الأفراد إلى مؤسسات يشارك فيها مواطنون من ذوي الخبرات الصحفية الثقافية والقدرات المالية والمؤهلات الإدارية مجرد إصدار مزيد من الصحف اليومية، تضاف إلى ثلاث كانت تصدر قبل تطبيق ذلك النظام- “البلاد” و”المدينة” و”الندوة”-، وإن كان التوازن والشمولية في الانتشار قد أخذا في الاعتبار. الهدف كان إنشاء مؤسسات تصدر عنها صحف ومجلات قادرة على التطور المستمر- مهنياً وفنياً- بقواها الذاتية، في سوق حرة وتنافسية، وكانت ولادة معظم المؤسسات سهلة نوعاً ما، بينما كان خروج اثنتين منها أشبه بالولادة القيصرية وكانت الحصيلة ثماني مؤسسات أنشئت في عهد جديد، وهي: “البلاد”، “المدينة”، “عكاظ”، “مكة” صاحبة امتياز “الندوة”، “اليمامة” صاحبة امتياز صحيفة اليمامة” التي تحولت إلى مجلة، وامتياز جريدة “الرياض”، “الجزيرة”، “الدعوة” و”اليوم”. ومنذ الشهور الأولى لتطبيق ذلك النظام والصحف تنشر العديد من المقالات ونصوص محاضرات تناولت مختلف جوانبه وتقيم نتائج تطبيقه؛ وعددٌ منها تطرق إلى إشكاليات العلاقة بين مدير عام المؤسسة ورئيس تحرير الصحيفة التي تصدر عنها، وهي إشكالية تكررت باستمرار وسببت صداعاً لوزارة الإعلام وصراعات أحياناً في بعض المؤسسات الصحفية، أدت إلى التسبب في تعثر بعضها. ومن أوائل من تطرقوا إلى الطبيعة الإشكالية في العلاقة بين مسؤوليتي مدير عام المؤسسة ورئيس التحرير، والتي ثبت لاحقاً أنها كانت سبباً رئيساً في إعاقة تطور هذه الصحيفة أو تلك في فترات مختلفة، كان الأستاذ عبدالله القصبي رحمه الله، في محاضرة له بعنوان: “صحافتنا في عهد المؤسسات والرأي العام”- “المدينة”، العدد 221، في 28/7/1384 هـ، الموافق 2/12/1964 م، والتي ذكرت- أي الصحيفة- بأنه بعد إلقائها احتدم نقاش بين المحاضر والأستاذ عزيز ضياء وعدد من الحضور وأن كلاً منهم قد وعد بنشر مرئياته حولها في الصحف ، ومما ورد في تلك المحاضرة التي نشرت في عدة حلقات في الصحيفة ما أسماه المحاضر بـ”المركز الهزيل الذي أعطاه النظام لرئيس التحرير والمركز القوي الذي قدمه النظام لركن الإدارة”، وقال: “كان لهذا التباين أثر كبير في صحافتنا فلقد صعب على الكفاءات التي وصلت إلى مراكز رؤساء التحرير بعد صدور النظام أن تصمد.. والصراع بين الإدارة والتحرير صراع تقليدي في مهنة الصحافة منذ قيامها..”. وإذا ما تجاوزت بعضاً من أهم ما كتب عن نظام المؤسسات الصحفية من ذلك الكم من المقالات- وعذري في ذلك محدودية الحيز المتاح- أقول إن صحافة المؤسسات سارت حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي- السبعينيات الميلادية- على نحو رتيب، وثبت أن بعض مدراء العموم لتلك المؤسسات- وبعضهم كانوا مسؤولين سابقين- كانوا عقبة أمام انطلاقتها وتطورها ،وتلك قصة أخرى يطول سردها. غير أن ما يأخذه الحجيلان على المؤسسات الصحفية هو عدم الاستفادة من فرصة- بل من فرص- ذهبية أتيحت لاحقاً؛ فرص مادية ضخمة، ولهذه الفرصة صلة بارتفاع مداخيل المملكة بفعل الارتفاعات المتتالية في أسعار البترول، والتي نتج عنها طفرة في المشاريع التنموية وثورة في التشييد والبناء وانفجار في الاستهلاك، وتبعاً لذلك تضاعف حجم الإنفاق الإعلاني في السوق السعودية الذي استفادت منه صحف المؤسسات الصحفية ومجلاتها، بل واستفادت منه الصحف والمجلات العربية التي ترد إلى المملكة- الكويتية واللبنانية على وجه الخصوص-، قبل أن يحصل التلفزيون على حصة يسيرة منه، وازدهرت بسبب تلك الطفرة الإعلانية شركات إعلان في لبنان وعدد من الدول الأوروبية. من جانب آخر، برزت إلى السطح منذ مطلع عام 1978 م؛ ظاهرة انفردت بها الصحافة في الكويت، ثم المملكة فبقية دول الخليج لاحقاً، ألا وهي كثافة الصفحات الإعلانية المتعلقة بالمناسبات. بدأت تلك الظاهرة في الكويت عند وفاة الشيخ صباح السالم الصباح في 31 ديسمبر 1977، حينما نشرت الصحف والمجلات الكويتية كماً هائلاً من إعلانات التعازي استمر عدة أيام؛ وسرعان ما انتقلت هذه الظاهرة- ظاهرة كثافة إعلانات التعازي عند وفاة شخصيات كبيرة- ملوك وحكام، أولياء عهود، أمراء ووزراء ومسؤولين كبار وشيوخ قبائل أو أقاربهم...- سرعان ما انتقلت هذه الظاهرة إلى الصحافة السعودية، فكانت إعلانات التعازي- مع إعلانات التهاني المتزامنة مع تدشين مشاريع كبيرة أو عودة شخصية كبيرة من العلاج وإعلانات عيدي الفطر والأضحى واليوم الوطني...- بمثابة المن والسلوى الذي يهطل على الصحيفة أو المجلة، دون عناء منها، إلى حد كانت فيه الصحف والمجلات تعجز عن طباعة كل ما يردها من تعازي أو تهاني... فتنشرها على مدى عدة أيام. ومن باب الإنصاف القول أن الصحف التي تميزت بمستوى مهني وإخراجي عالٍ حظيت بالنصيب الأوفر. وإلى جانب المكاسب الإعلانية السهلة من تلك الطفرة- والتي استفادت منها الصحف والمجلات جميعها- وإن على نحو متفاوت- حظيت المؤسسات الصحفية من الدولة بمعونة سنوية تمثلت في دعم مالي سنوي واشتراكات في صحفها ومجلاتها، وحظيت كذلك بمنح أراضٍ لمقراتها، علاوة على ما كانت تحصل عليه الصحف والمجلات من إعفاءات جمركية على آلات ومستلزمات الطباعة وورق الصحف منذ مطلع ثمانينيات القرن الهجري الماضي. ويضاف إلى ذلك ما أصبحت تقدمه وكالة الأنباء السعودية من خدمات إخبارية لتلك المؤسسات- أخبار وتقارير وصور- منذ انطلاقتها في 25/11/1390 هـ، الموافق 23 يناير 1971 م، ورفد الصحف والمجلات بخريجي أقسام الإعلام ابتداءْ من عام 1395 هـ، وأولها قسم الإعلام بجامعة الملك سعود، والذي كان لوزارة الإعلام دور في الإيعاز باستحداثه، ثم من خريجين من أقسام الإعلام التي استحدثت في الجامعات الأخرى. مداخيل ضخمة صرف النصيب الأكبر منها أرباحاً لأعضاء المؤسسات، ولم يفكر في استثمار نسبة منها لتضمن الحصول على عوائد تعين في الأوقات الصعبة، بل وتضمن استدامة تحقيق الأرباح التي يحصل عليها أعضاء المؤسسات الصحفية نفسها، ولم تفكر أي من تلك المؤسسات في انشاء مركز تكوين وتدريب إعلامي متقدم، أو مركز لدارسة الرأي العام ورصد اتجاهاته وتحليلها، أو إنشاء مراكز دراسات وأبحاث متطور- خصوصاً والبلاد أصبحت تعج بالآلاف من الخبرات الوطنية عالية التأهيل في مجالات عديدة-، أو تكوين صحفيين متخصصين ذوي تأهيل عالٍ في مجال الاقتصاد، أو في مجال البترول والطاقة الذي تحتل المملكة مكانة كبيرة فيه. ولندع جانباً الاستشراف والتفكير المبكر في كيفية تعزيز مواقع تلك المؤسسات لتصمد أمام تطورات الثورة في تكنولوجيا المعلومات وتعاظم دور وسائل التواصل الاجتماعي. تبخرت تلك المداخيل الهائلة، ولا يلام الأعضاء المساهمون في ذلك، بل تلام القيادات الصحفية والإدارية في تلك المؤسسات، وتلام كذلك وزارة الإعلام المؤتمنة على حسن تطبيق نظام المؤسسات الصحفية- روحاً ونصاً-، بحكم مشاركة ممثل عنها في جميع اجتماعات الجمعيات العامة للمؤسسات منذ تأسيس كل منها؛ وتلام على عدم التنبه إلى أهمية توجيه نسبة من المداخيل التي حظيت بها المؤسسات منذ بدايات فترة الطفرة إلى الجانب التطويري لصحفها ومجلاتها وتعزيز أوضاعها المالية بالاهتمام بالجانب الاستثماري، في بلاد استفاد من الفرص المتاحة فيها الملايين من ابنائها وأخرين من مشارق الأرض ومغاربها. وقد فصَّل الحجيلان في مذكراته (ج. 1، ص. 438-446) في الأسباب التي جعلته يأخذ على المؤسسات الصحفية خذلان حلم- أو أمل كبير- من آمال هذا الوطن. والحجيلان محق في القول بأن المؤسسات “لم تقم من أجل هدف ربحي، بل قامت من أجل بناء كيانات صحفية متطورة ترافق... ما تتطلع إليه البلاد من تنمية شاملة في مختلف أوجه الحياة، كما أن الدولة قد أرادت، من إصدارها للنظام، أن تُصرف دخول المؤسسات على تطوير العمل الصحفي الموكل إليها، والارتقاء به ارتقاءً نوعياً، يستجيب لما يواجهه الوطن من تحديات...”. والسؤال الذي طرحه الحجيلان ،وهو يعبر عن الشعور بخذلان ذلك الحلم الذي شارك في انطلاقه وواكب بداياته عندما رأى ما آل إليه حاله بعد خمسة عقود،: أين كانت وزارة الإعلام ووزراؤها المتعاقبون من متابعة حسن تحقيق رؤية الدولة المتعلقة بالصحافة ومؤسساتها ؟