في جغرواية «بطن البقرة» لخيري شلبي ..

تشريح الجغرافيا للعثور على التاريخ.

هذا عمل أدبي أطلق عليه صاحبه صفة “جغراوية”، كلمة مزج فيها بين الجغرافيا والرواية، ويقصد رواية تاريخ مكان عبر الزمان، وهو متابعة للكتابة عن جغرافية المدن وما تحتويه من أحداث التاريخ الاجتماعي، مثال ذلك كتاب “الخطط التوفيقية “ الذي ألفه علي مبارك باشا، وهو من أوائل من درس الهندسة في مصر وأنيطت به مهمات تطوير القاهرة. يروي خيري شلبي أنه عثر في مكتبة عمه الخاصة على كتاب لم يكن له غلاف، وقد شغفه حبا فأسماه “ تاريخ البيوت والشوارع”. ثم تبين له أنه المجلد الأول من كتاب “خطط المقريزى”. أما العنوان “ بطن البقرة” فهو الاسم القديم لتلك المنطقة من وسط القاهرة، والتي كانت تشغلها مستنقعات للمياه تشبه بطن البقرة. حتى جاء الأمير أُزبك الخازندار فحولها إلى بِركة (بكسر الباء) مبنية بنظام هندسي، فحملت اسمه “الأزبكية”. التي أصبحت مزارا سياحيا بديعا تحوطها القصور والأرصفة والحدائق الغناء. ولذا فإن هذا العمل الخططي الروائي يتناول قصة ثلاثة أحياء، تمثل في الحقيقة شريحة جغرافية واحدة هي: حي قايتباي المعروف قديما “بمقابر المجاورين”، وحي الباطلية (و ليس الباطنية) ويقع فيها الجامع الأزهر الشريف، وحي الأزبكية. حي قايتباي من أعجب الأحياء في مصر، فقد اختلط فيه الأحياء بالأموات اختلاطا تاما، فأنت لا تستطيع التفرقة بين البيت السكني و المدفن، يأخذ اسمه من جامع قايتباى، وقايتباى هو أحد سلاطين الدولة المملوكية وقد بنى الجامع ليكون أثرا إسلاميا فذا، أما الحي نفسه فقد أُعد في الأصل ليسكنه خدم المقابر، الخفراء والحانوتية، وأصحاب الفراشة الذين يؤجرون مستلزمات مجلس العزاء، أما منطقة مقابر المجاورين فهي التي يسميها المقريزي “القرافة الصغرى” وهي مقامة على أجمل مناطق القاهرة، لماذا اختص الأموات بهذا المكان الجميل بينما اختط الأحياء محيطه الذي لا يقارن به جمالا؟ يذكر ابن عبد الحكم في كتابه “ فتوح مصر” أن الحاكم الروماني لمصر في عهد الفتح العربي الشهير بالمقوقس طلب من عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك وقال: “ أكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين”، كتب الى عمر رضي الله عنه فأجاب: سله لم يعطي فيها المال وهي أرض لا تُزرع ولا يُستنبط فيها ماء ولا يُنتفع بها؟ فقال المقوقس:” إنا لنجد صفتها في الكتاب، إن فيها غراس الجنة”. فكتب عمر “إنا لا نعلم غراس الجنة إلا للمؤمنين، فاقبر فيها من مات قِبلك من المسلمين، ولا تبعه بشيء”، فكان أول من قُبر فيها رجل من المغافر من بنى قرافة. وهكذا صارت المقبرة تسمى القرافة. المعروف أن العائلات المقتدرة في مصر تضع مقابر أبنائها في مساحة من الأرض تختص بها، وتقيم فيها استراحة تجلس فيها الأسرة حين تزور أمواتها، وأحيانا تقيم فيها مناسبات العزاء، وقد تتفنن هذه الأسر في عمارة هذه الاستراحات، مقبرة الأسرة الخديوية من الداخل تحفة حقيقية، حافلة بالكنوز الأثرية الثمينة، شواهد المقبرة كلها من الرخام والمرمر، مجوفة من الداخل، وأرض الحجرة مفروشة فوق الرخام بأجود أنواع السجاد الشيرازي، وفي الممرات أوان من المرمر الحر، وفازات من الذهب والفضة، وطاقم الجلوس فيها هو الصالون الذي أعده الخديوي اسماعيل لاستقبال الإمبراطورة أوجيني أثناء زيارتها لمصر في حفل افتتاح دار الأوبرا. وهكذا يمضي بنا الكاتب عبر المباني والمساجد. يتحدث عن تاريخها ووضعها الحالي، ومدافن الكبار ممن نسمع عنهم، ومن عجائب ما رواه أن أحد الصالحين، الشيخ علي الوقاد - وهو مصري من أصل مغربي، اغتنى من صناعة كراسي الخيزران- علم أن قصر العيني المقام على كورنيش النيل سيُهدم ليقام مكانه مستشفى حديث وكلية للطب، والناس يتحسرون على جمال القصر الذي سيصبح أنقاضا، فاتفق مع المهندسين الفرنسيين على تحويل بوابات القصر الرخامية الجميلة إلى قطع هندسية، تم نقلها بعد ذلك على عربات تجرها الخيول وأُعيد تركيبها لتتكون اليوم مجموعة فنية من أجمل ما احتفظ به من المعمار القديم. إذا انتقلنا إلى حي الباطلية، يأخذنا الكاتب عبر مداخله السبعة إلى جولة داخل حارات الحي التي أصبحت فيما بعد موطنا لتجارة الحشيش، أما قصة الحي نفسه فهي قصة بناء القاهرة، إذ استقدم جوهر الصقلي القائد الفاطمي معه مهندسين من المغرب قاموا بتخطيط مدينة للخلفاء الفاطميين فيها الجامع الأزهر والقصور، ثم نال مدينته ما نالها من هوان بما تعرضت له القاهرة بعد زوال الدولة الفاطمية، عندما وصل المعز لدين الله أرسل من يوزع الأعطيات على الناس، وتكاثر الناس حتى نفدت الأعطيات، وبقي من لم ينله منها شيء فاستنكروا وقالوا: رحنا نحن في الباطل، فسميت منطقة سكناهم الباطلية. يتحدث الكتاب بتفصيل عن تجارة الحشيش والأباطرة من تجاره، والحرب بينهم وبين السلطة التي تشتد وتهدأ، ومن طريف ما رواه أن أحد أبناء الحي رشح نفسه لعضوية مجلس الشعب، وكان قبلها وزيرا للداخلية، قام تجار الحي الأغنياء بإقامة الأفراح والليالي الملاح حيث الطعام بأصنافه لكل الناس، وكل هذا دعاية لابن دائرتهم الذي فاز في الانتخابات ولم يتكلف مليما واحدا. شهدت تجارة الحي عامين بعد ذلك من الازدهار والانتعاش لم تمر بها من قبل. انتهت هذه الفترة حين اكتشفت الحكومة أربعمائة طن من الحشيش كانت مخزنة في الاسكندرية لصالح شركات صناعة الأدوية، ودلت التحريات على أنها قد وصلت حي الباطلية، ودارت رحى حروب بين الحكومة والتجار، انتهت لصالح تجارة مواد مخدرة أخرى مثل الهيروين والكوكايين وغيرها من السموم البيضاء، الأفتك بالصحة والأسهل في التعاطي والاتجار. حي “وش البركة” أصبح اليوم أحياء العتبة والأوبرا والأزبكية، وقد اشتهر بدار الأوبرا التي احترقت، وكانت يوم إنشائها من أعاجيب الدنيا، كذلك اشتهر الحي بمسارحه ومقاهيه التي كانت تُعقد فيها جلسات المثقفين، قهوة متاتيا كانت مجلس جمال الدين الأفغاني وتلاميذه، ومقهى الأوبرا عقد فيه مجلس الجمعة حيث نجيب محفوظ والأدباء والمريدين. بِركة بطن البقرة كانت في الأصل بستانا يقابل قصر اللؤلؤة الذي يخص الحكام الفاطميين، ثم حولت إلى مجمع للمياه في بداية القرن الخامس الهجري، وبعد مضى وقت أزيلت الأبنية من حولها، وتم تعميق البركة وسلطت عليها مياه النيل، وأصبحت منطقة سياحية يبتني حولها الأغنياء قصورهم، ثم حل بها إهمال، فما مضى عليه ثلاثمائة سنة حتى كان قد رُدم بفعل التعديات عليه وما رسب في قعره من طمي النيل وما يلقى فيه من نفايات، وفي عام ثمانمئة وثمانين للهجرة أعاد الأمير أوزبك حفر البركة وبنى حولها رصيفا جميلا وأقيمت حولها القصور ومراكز لسباقات الخيل والمبارزة، وأصبحت منطقة ترفيه، إحدى المناطق حوله أسميت “ وش البركة”. ثم ظهرت ألعاب اللهو مع سرادقات الطعام التي يقيمها الأمير يزبك. فيها ألوان الطعام والشراب والمسابقات، ثم دخلتها الجواري للرقص والغناء، وجاء عامة الناس فسكنوا قريبا واطلعوا على ما يجري من لهو، مع الوقت تحول اللهو البريء إلى لهو غير بريء، واللهو إذا لم تهذبه الثقافة تحول إلى مفاسد، ولذا فقد اكتسبت تلك المنطقة سمعة سيئة لاحقتها طويلا. وقد كتب مؤرخو ذلك العصر كثيرا عن دور البغاء التي انتشرت واستمرت حتى جاء الفرنسيون، فنظموا أنشطة الدعارة للترفيه عن جيوشهم. من مشاهير من سكن تلك المنطقة واحد ممن تولوا مشيخة الجامع الأزهر، توفي سنة ١٧٥٥م ، وكان قد ورث عن أبيه ثروة ضخمة فابتنى لنفسه قصرا فخما بجوار جامع الرويعي، وجهزه بمظاهر العز والترف كأكابر القوم، وفي عصره سقطت هيبة العلم والعلماء، ويعتقد الكاتب أن عصره كان العصر الذي انتقده أحد الشيوخ في كتابه الهزلي”هز القحوف في شرح قصيدة أبى شادوف”، انصرف جانب من علماء الأزهر إلى اللهو، فتخلفوا في مجالات العلم، واقتصر دورهم على شرح المعلقات القديمة بألفاظ حديثة، وأخذ عليهم مؤلف الكتاب انغماسهم في بلهنية العيش، وتركهم الناس يرزحون تحت نير الحكم المملوكي والعثماني والفرنسي. وقد توسع الجبرتي مؤرخ ذلك العصر في تفصيل ممارسات اللهو الحرام التي تسقط العدالة والمروءة عن صاحبها. والغريب أنه انتشر في المجتمع أناس يدَعون التصوف والدرودشة ويرتكبون المعاصي جهارا، ويجدون من يبرر أفعالهم بأنه لا بد للمعاصي من فاعل، ولذا يجب السكوت عليهم. وهؤلاء من أدخل شراب القهوة الحلال وشرب الحشيش الحرام إلى مصر وهيأ لها قبولا بين طبقات الشعب. وهنا بدأت المقاهي وظاهرة منشدي الربابة الذين ألفوا “سيرة الظاهر بيبرس” تلك السيرة الشعبية التي وصلت إلى سبعة آلاف صفحة حين تدوينها، وكذلك سيرة على الزيبق، وهي سيرة شعبية أخرى لها رواتها ومجالسها. يقع شارع الألفي في منطقة الأزبكية، وقد نُسب إلى القصر الذي أقامه الأمير محمد الألفي بك، ثم تداول عليه الأمراء، وحين جاء الاحتلال الفرنسي أصبح مقر نابوليون بونابرت، وسكنه بعده خلفاؤه وكل منهم أدخل عليه تحسينات، وقد قام الفرنسيون بتوسيع الميادين من حوله ومنعوا رمي القمامة، وبدأوا كنس الشوارع وغسلها بالمياه. هكذا أصبحت الأزبكية العاصمة السياسية لمصر، ولكن ما يثير الأسى استمرار روح اللهو عند كبار القوم، يروي الكاتب عن شاعر اسمه حسن العطار كان يتغزل بالشباب الفرنسيين غزلاً شاذا وبالفتيات الفرنسيات، يروي ذلك الشاعر عن دخوله لمنطقة تجمع الجنود الفرنسيين يتحرش بهم ، فتحاور معه البعض، عرف أنهم يتعلمون اللغة العربية ويقرأون أمهات الكتب العربية، ويترجمون منها إلى الفرنسية، حتى أن أحدهم كان يحفظ قصيدة البوصيري “ أمن تذكر جيران بذي سلم “ ويعلق خيري شلبى قائلا: “ انتهى كلام العطار، وواضح من شهادته فداحة البون الشاسع بين ثقافتين: واحدة شاخت وتحجرت، والأخيرة عفية ناهضة، ففي الوقت الذي يهتم فيه فتيات وفتيان الفرنسيين بمحاولة الغوص في أسرار الثقافة العربية وفهم طبائع الشخصية العربية، إذ بواحد من صفوة هذه الثقافة لا يشغله من الأمر سوى الغزل بالغلمان قبل الفتيات، ولا يدرك عمق المأساة وهو يكتب ما كتب”. رواية غير تقليدية، خيري شلبي الروائي يفتح بطن الجغرافيا، ليعثر على التاريخ والناس.