قراءة فيما أضمره فيلم (هوبال).
الفيلم الجيد، بالنسبة لي، هو الفيلم تستمتع بمشاهدته أولا، ثم يثير داخلك مجموعة من الأسئلة والأفكار، تستمر معك بعد نهاية الفيلم، وتنتظم بخيوط تصلها بقضايا الإنسان ككائن، وبالحياة والوجود بمختلف معانيه. وقد شاهدت عدة أفلام سابقا، للمخرج السعودي الأستاذ عبدالعزيز الشلاحي، ومنذ يوم واحد فقط انتهيت من مشاهدة فيلمه الأخير الجميل (هوبال)، للمؤلف مفرج المجفل، وعندما أكتب (فيلمه) فهنا لا أشير إلى ربط إخراج فيلم سينمائي ما، بمخرج معين، أو كاتب معين، بل أعمق من ذلك، أشير إلى ربط عمل فني، له جانب تقني فني، وجانب فكري، يتم الاشتغال عليه قبل بدء تنفيذ العمل التقني، وخلاله، لم يقل الشلاحي والمجفل ذلك صراحة، لكنهما قدما علامات تدل على ذلك، كما حين نشر عبدالعزيز أنه قضى عدة أيام في الصحراء، وحيدا، قبل تصوير الفيلم، لاختيار أماكن التصوير، كمنصة ومشاهد للفيلم رأيت أثر ذلك وسمعته. في الصمت الظاهر، والمهيب للصحراء، عبر تصوير الفراغ الممتد بامتدادها، حتى صوت الهواء في الصحراء لم يكن له ذلك الظهور المعتاد، ليعزز وصول الصمت إلى كمشاهد. ورأيت ذلك اكثر في الصمت المضمر خلال الحوار والكلمات، فالكلمات المضمرة داخل الحوارات، هي اكثر من الكلمات المنطوقة في الفيلم، وتم التعويض عنها بالنظرات، حركات الجسد، وغيرها، كتب (ديديه أنزيو) في كتابة (الجماعة واللاوعي): “ يعبر الصمت الجماعي المستمر أو المتكرر، عادة عن قلق اضطهادي، أمام ظرف الجماعة، التي تعاش كأم سيئة، ويحمل التأويل عندئذ على وجود خوف، غير معترف به، في ذهن المشاركين، خوفاً من الكسر”. لم يكن الفيلم غنيا بذلك فقط، بل بالعديد من الرمزيات، كرمزية قتل الذئب في المشهد الأول، في اللحظة التي كانت تستدعيه بطلة الفيلم دون خوف، كإشارة مبكرة، تعبر عن حاجز يمنع الوصول إلى التقارب الوجداني بين أغلب افراد الأسرة. ورمزية “الديرة” كتعبير رمزي عن “الآخرين” الذين يؤدي الاختلاط بهم إلى تشويه نقاء الذات، كثف ذلك المعنى، علامة أخرى دالة داخل الفيلم، عبر عنها رسم دائرة أو مربع محيط بالخيمة التي حوت داخلها البنت المصابة بالمرض، وهذا يحيل إلى أسطورة قديمة، قدمت عادة منتشرة لدى العديد من الثقافات البدائية، تحدث عنها (مارسيا إلياد) في كتابة: (المقدس والعادي)، حيث يتم رسم دائرة حول قرية أو مكان ما، في حال وجود شر أو مرض ما، وممارسة طقوس ما، اعتقاد أن ذلك يقدم حرزاً ما لحماية القرية أو المكان، ويمنع عبور الشر أو المرض إلى داخلها أو العكس. وفي صورة مضمرة أكبر، عبرت العزلة داخل الصحراء، حيث الإحالة إلى الطهر والنقاء، عن رسم تلك الدائرة، بين (المكان) النقي، والمكان الملوث أو المصاب بالمرض الذى رمز له ب “الديرة”، ولم يكن اسم الديرة هنا مهماً، أو يقدم إضافة مهمة لو سميت، لأن المعنى المراد منها، كمقابل لطهر ونقاء الصحراء، يتحقق بمجرد تواجد مجموعة كبيرة من الناس تعيش في مكان واحد محدد. أيضا أضمر الفيلم أسطورة الأب (إيكاروس في الميثولوجيا اليونانية) ورمزية سطوة تعاليمه، ونتيجة عدم طاعته، وإيكاروس في الأسطورة، كان هو ووالده ديدالوس سجينين داخل متاهة هائلة لا يخرج منها أحد، شيّدها الأب، بأمر من ملك كريت مينوس. وبعد أن اكتشف الأخير خيانة ديدالوس له، رمى به مع ابنه إيكاروس في المتاهة، فعلقا هناك، ورغم استحالة الفرار، نجح الأب في تجهيز أجنحة من ريش وشمع، وطارا بواسطتها فوق المتاهة، وأوصى الأب ابنه بأن لا يحلق قريباً من الشمس ولا قريباً من سطح البحر، وإلاّ فنى، وهذا ما حصل. حيث حلق الشاب قريبا من الشمس بجناحين من ريش وشمع، فذاب الشمع بفعل الحرارة فهوى الشاب في البحر ومات غرقا. نلاحظ هنا التشابه الكبير: المتاهة = الصحراء – تذكرت تعبير بورخيس عن الصحراء بمتاهة أيضا في احدى قصصه - بناها الأب = اختيار الجد للعزلة في الصحراء، تجهيز الأبن بأجنحه وريش = الحرص على تعليم الأحفاد الدين، النهي عن الاقتراب من الشمس والبحر = التحذير من السكن في الديرة أو حتى الذهاب للعلاج فيها، اقتراب ايكاروس من الشمس = ذهاب الولد إلى الديرة، موت ايكاروس بعد ذوبان الشمع = موت الولد في نهاية الفيلم، موت إيكاروس غرقا = مشهد موت الولد داخل خزان الماء. لم يكتفِ الفيلم بهذا العمق، بل أيضا استمر في ذات السياق، فكان هناك ذلك البرود في عدم الجزع أو الخوف الشديد على مصير (الأب)، حتى أن أمهم عاتبتهم على ذلك، كعلامة مكتملة تشير إلى الرغبة في التخلص أو التملص من سطوة الأب (بالمعنى الثقافي)، أي السلطة فرضت على الجماعة معاييرها وشروطها، ولم يكن الجماعة (الأبناء) قادرين على التمرد على تلك السلطة، لكننا رأينا الجيل التالي، جيل الأحفاد، لديه تلك النزعة للتمرد، في اكثر من مشهد، خاصة في مشهد إصرار البنت المصابة بالمرض على عدم الدعاء لجدها ( أب الجماعة)، والدعاء للولد، الذى تمرد معها على سلطة الجماعة وذهب بها إلى “الديرة” للعلاج، حيث كسرا فرض العزلة كتعبير عن الرغبة في الوصول إلى الآخر. اضيف أيضا، علاقة الأب (الجد) المتوترة والمضطربة مع الأبن سطام، الذى رمز لخطاب الجماعة العامة (الرسمي)، وتمثيل الأب الرمزي لخطاب الجماعة الخاصة، ولاحظنا أنه حين شعر سطام بالخوف بسبب اعتقاد قرب يوم القيامة بسبب الحرب، عاد إلى الحضن الأول، حضن الجماعة الخاصة. واختم برمزية زواج الابن الثاني شنار في “الديرة”، كناية عن اضطراب وتأرجح الذات، بين خطاب (الأب الثقافي) الذى يدعو إلى (الخصوصية) والانعزال، ورغبة الذات في الوجود ضمن أطر أكبر مع الآخرين والاختلاط معهم.