أزمة النقد والفكر في ثلاثينات القرن العشرين.
تأثر النقد العربي المعاصر بالفكر الغربي وبآداب الغرب الأوروبي، وذلك من خلال تأثر مجموعة من الأدباء والنقاد العرب بآداب أوروربا ومناهجها ونظرياتها الفكرية والأدبية والعلمية، ومن هؤلاء النقاد والأدباء على سبيل المثال طه حسين وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل ومحمد مندور ومحمد لطفي المنفلوطي وغيرهم. وحين نمعن النظر فيما بعد تأثر هؤلاء النقاد والأدباء بالفكر الغربي، نجد أنهم بعد عودتهم لوطنهم ظهر تأثرهم واضحًا على الساحة النقدية والأدبية العربية، فكان لهذا التأثر ردة فعل تجاههم، اختلفت باختلاف عدد من المعطيات، كدرجة تأثر الأديب بالفكر الغربي، وكتصريحه بهذا التأثر، وبمدى مساسه أو اقترابه من المساس ببعض الثوابت الدينية أو العرقية، وغيرها من المعطيات الأخرى. فظهر نوع من الأزمة الفكرية في ثلاثينات القرن الماضي، وبدت هذه الأزمة واضحة وبشكل كبير عند بعضهم كطه حسين والمازني مثلًا، وخفتت قليلًا عند بعضهم الآخر. حاول هؤلاء النقاد الذين تأثروا بالفكر الغربي -بمختلف اتجاهاتهم الفكرية- أن يربطوا الشرق بالغرب، وأن يستفيدوا مما اطَّلعوا عليه من معارف ونتاج وأفكار غربية في تقديم قراءة جديدة للتراث العربي، وفي إنتاج معارف جديدة لهذا التراث. ومما يتضح لنا أن هؤلاء النقاد مع تأثرهم بالفكر الغربي، إلا أنهم لم يلغوا القديم ولم يهمشوه، بل كان التراث القديم ميدانًا لتطبيق ما ثقفوه من علوم غربية، فأعادوا قراءته والبحث فيه بمناهج ونظريات جديدة؛ يقول طه حسين:”إن القديم لا ينبغي أن يُهجر لأنه قديم، وأن الجديد لا ينبغي أن يطلب لأنه جديد، وإنما يُهجر القديم إذا برئ من النفع وخلا من الفائدة، فإن كان نافعًا مفيدًا فليس الناس أقل حاجةً إليه منهم إلى الجديد”، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يوفق البعض أو فلنقل لم يستفد من اطلاعه على الآداب الغربية بل ارتد على القديم مُشكِّلًا نوعًا من الأزمة مع نفسه وشكلاً من أشكال الأزمة في الفكر العربي المعاصر. قلَّبَ طه حسين بمنهج “ديكارت” الشعر الجاهلي، وأخذ يدرسه من جديد، ويلقي الضوء على جزيئاته ولغته وتفاصيله وظروفه وحياة قائليه، وأخذ يدرس كل من هذه التفاصيل التي تحيط بالشعر الجاهلي كلًا على حدة، أخذ يشك ويدلّل ويستنتج مستنيرًا بمنهج “ديكارت” في الشك. كما ألَّف عددًا من الكتب وأصدر عددًا من المقالات النقدية مستنيرًا بما استفاده عقله مما وراء المتوسط من معارف ومناهج. وهناك أزمة أخرى، مرّ بها طه حسين، وهي أنه وبعد تصريحه بتمثُّل منهج ديكارت في الشك في كتابه “في الشعر الجاهلي”، وقوله صراحةً: “إن المستقبل لمنهج ديكارت، لا لمناهج القدماء”، والدعوة إلى تطبيقه على بحوثنا الأدبية بكل صراحة، نجد أنه تأثر بمنهج “روبرت داروين” (1809-1871م) في النشوء والارتقاء، كقوله إن: “الأدب وفنونه ينشأ ويتطور من حال إلى حال، حتى يزيد البعد بين فرعه وأصله، كما تطوَّر الإنسان من قبل وانتهى إليه من أصله الأول”، والعديد من الدلائل الأخرى. كما تأثر طه حسين بالمنهج النفسي، وخاصة في كتابه “تجديد ذكرى أبي العلاء” والذي استعان بعلم النفس في مواضع كثيرة منه لتبرير سلوك أبي العلاء المعري وفلسفته في الحياة وطريقته في الكتابة. ولكن مع ذلك كله، لم يصرِّح طه حسين بتأثره بمنهج “داروين” ولا “بالمنهج النفسي” أيضًا، كما صّرح بتأثره وإعجابه بمنهج “ديكارت”، وهنا مكمن الاستغراب، مما يدل على أن طه حسين يعيش أزمة واضحة المعالم، فإذا كان مقتنعًا بهذين المنهجين ومتأثرًا بهما في آرائه وأفكاره ونقده، فَلِمَ لم يُشِر -على الأقل- مجرد إشارة إلى هذا التأثر والتمثُّل؟ ولعل الأزمة الكبرى التي عاشها طه حسين مع التيار المحافظ بعد تصريحه بالتأثر بمنهج “ديكارت” في الشك، قد أدت إلى هذه الأزمة التي عاشها طه حسين مع نفسه ، وحالت بينه وبين التصريح بما آمن به وتمثَّله من فكر ومناهج أخرى. أما العقاد فأخذ يدرس ابن الرومي وأبا نواس دراسة في التحليل النفسي، ويخضع شخصيتي الشاعرين العباسيين لآراء ونظريات “سيغموند فرويد” مؤسس علم التحليل النفسي، مستفيدًا من تمثّله لهذا المنهج الغربي الحديث في قراءة شخصيات بعض شعراء التراث العربي. لكننا في الوقت نفسه نجد للعقاد نوعًا من النقد الانطباعي والذاتي لأحمد شوقي في كتاب الديوان الذي ألفه مع المازني،مما يشكل لونًا من ألوان أزمة أحدثها العقاد مع نفسه -وإن كانت قليلة بالمقارنة مع البعض الآخر- لا نجد لها تفسيرًا. وفي الوقت الذي يبدع كثيرون في الاستفادة من تأثرهم بفكر أوروربا، ويخضعوه لقراءة التراث العربي من جديد، يشكل إبراهيم عبد القادر المازني أزمة مع نفسه حينما يتقن الإنجليزية ويطَّلع على الثقافات واللغات الإنجليزية والأوروبية بشكل عام، ثم يعود وينكص باتجاه الأحكام النقدية التقليدية والنقد الأخلاقي، والتي أشهرها ما حواها كتاب “الديوان في الأدب والنقد” عندما أصدر أحكامًا انطباعية ذاتية بحق رفيقه عبد الرحمن شكري ومحمد لطفي المنفلوطي. كما أن ترنُّح المازني بين الجديد والقديم في تناوله لشعر عبد الرحمن شكري يُعدُّ وجهًا من وجوه أزمة الفكر العربي المعاصر، وذلك حينما أخذ المازني على شكري تشبثه بالقديم، وأنه لا يحفل بالتجديد، مع أن المازني نفسه متمسك بالتراث القديم وخاصة بالأحكام النقدية التقليدية الانطباعية، مما يجعلنا نقول أن المازني يعيش صراعًا بينه وبين نفسه في توظيف هذا الفكر الغربي في قراءة التراث العربي، فالمازني ما فتئ يتردَّد بين أن ينتمي إلى هذا التراث القديم وبين أن ينتمي إلى ذلك الفكر الغربي الحديث، وهذا التردد والتشتت الذي عاشه المازني يشكِّل وجهًا من وجوه أزمة الفكر العربي المعاصر في ثلاثينات القرن العشرين. إن المعركة التي قامت ضد هؤلاء الذين تأثروا بالفكر الغربي تُعد بحق أزمة فكرية في ثلاثينات القرن الماضي، فقد سُلت الأقلام ضدهم وعلى رأسهم طه حسين بنقد أخلاقي واتهامات شخصية طالت عقيدتهم ومذهبهم وتوجهاتهم دون نقد واضح لما أتوا به. ونحن نرى أن الرافعي وأحمد الجندي وغيرهم من المحافظين ربما لم يفهموا الرسالة التي وجهها طه حسين للتيار المحافظ على وجه الخصوص ونقده لطريقتهم في التعليم والتلقين الذي يرى طه حسين أنها لا تجدي نفعًا. فهناك على الأرجح سوء فهم من التيار المحافظ، وباعتقادنا أن هذا التيار لم يفهم رسالة طه حسين وأنه أوَّلَها بعيداً عمَّا قصده طه حسين. وبالمحصلة فالنقد العربي المعاصر في تأثره بالفكر الغربي من الممكن أن يقال أنه مثّل نوعًا من أزمة الفكر العربي في ثلاثينات القرن العشرين، ولكنها لم تكن أزمة كبرى بحيث تطغى على كل الايجابيات والنتائج المثمرة في الفكر العربي، بل إن لهذا التأثر العديد من المزايا والنتائج المفيدة في دراستنا النقدية والأدبية، وفي الفكر العربي، لعل من أبرزها الانفتاح على الغرب والإفادة من خبراتهم وتجاربهم في شتى المجالات الفكرية والعقلية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والفنية والأدبية، أما في المجال الأدبي والنقدي على وجه الخصوص فقد تشكّل النقد العلمي المنهجي، فأصبح نقدًا علميًا خالصًا قائمًا على أساس علمي موضوعي، بعيدًا عن الأحكام الانطباعية والتقليدية. وخلاصة القول إن تأثر النقد العربي المعاصر بالفكر الغربي أحدث نوعًا من الأزمة في الثلاثينات يمكن أن تتبيَّن في عدد من الوجوه، أحد هذه الوجوه هو الصراع الذي اشتعل بين تيارين أحدهما ليبرالي منفتح على الغرب والآخر محافظ، ومن وجوهها أيضًا عدم تصريح طه حسين والعقاد ومحمد تيمور وغيرهم من التيار المنفتح على الفكر الغربي بمناهج تأثروا بها وتمثلوها، والإبقاء على ذلك في نفوسهم لسبب أو لآخر، ومن وجوهها أيضاً تردد المازني بين التأثر بالغرب ومناهجه وبين التراث العربي التقليدي، وعدم ثباته على رؤية واضحة، وكذلك من أبرز وجوهها سوء فهم التيار المحافظ لطه حسين ورفاقه من المتأثرين بمناهج الغرب. ولكن في المقابل فهي وللإنصاف لم تكن أزمة فكرية كبرى بالمعنى الحقيقي للأزمة، فقد استفاد الفكر العربي من هذا التأثر النقدي بالعلوم والنظريات الغربية فخطا النقد الأدبي نحو العلمية بخطوات واضحة، وحاول التيار الليبرالي ربط الغرب بالشرق، والاستفادة من علوم الغرب في أدب الشرق، ولم يكن أصحاب هذا التيار يومًا مهملين لتراثهم العربي، بل طبقوا عليه ما ثقفوه من علوم الغرب وما وجدوه من تطورهم المنهجي والعلمي بمختلف المجالات، فتطوَّر النقد الأدبي واختفت أحكامه الانطباعية والذاتية أو كادت أن تختفي، واضمحل النقد الأخلاقي، وانفتحت المجتمعات العربية على العلوم الغربية والثقافات الأوروبية، فتحررت العقول شيئًا فشيئًا وتوسعت آفاق الرؤية لهذه المجتمعات، وخطت خطوات بعيدة نحو الانفتاح والتطور الفكري في مختلف المجالات. * دكتوراه في الأدب والنقد