رحلة الفيلسوف إلى الكويت.
في خريف عام 1922 غادر الأديب الرحّالة “أمين الريحاني”، المُلقّب “بفيلسوف الفريكة” نسبة للبلدة التي وُلد وتُوفّي بها في “لبنان”، غادر “نيويورك” حيث كان يُقيم، قاصداً الجزيرة العربية في رحلة قوميّة علمية، صوّر فيها خواطره في تلك السياحة الشاقّة، وخلع على خزانة الكُتب العربية كتاب “مُلوك العرَب” في جُزأين، أودعهما ما لقيه في تلك الرحلة من مُشاهدات وطرائف. فوصل إلى ميناء “جِدّة”، وبعد أن أمضى مٌدّة، بارح الحجاز إلى اليمن ومنها إلى عدن فبومباي ومنها للبصرة، وأخيراً وصل إلى “البحرين” حيث وجد من حفاوة الشيخ “عبدالرحمن القصيبي”؛ وكيل “الملك عبدالعزيز” في البحرين ما أنساه وعثاء السفر، وجهّز القصيبي سفينةً أقلّت الريحاني إلى ميناء “العقير بالأحساء”. وبعد أن عُقد مؤتمر “العقير”، بين الملك عبدالعزيز ومندوب “العراق” و”السير بيرسي كوكس” المندوب السامي البريطاني، سافر الريحاني في ركب الملك عبدالعزيز إلى “الرياض”، وأمضى في رحابه مُدّة طويلة. ثم أنه استأذن بالسفر، وعندما همّ بالرحيل إلى “الكويت” غادر الرياض مصحوباً باثني عشر راكباً، بينهم المُرافق والحارس والخادم والطاهي والقهوجي، وراعي البعارين يسوق أمامه قطيعاً من الغنم للذبح، ومعهم في الحملة الخيام، وفي مواعين المؤونة الكثير من الأغذية حتى العسل من “عسير” والبسكويت من “لندن”. ومرّت هذه القافلة أثناء سفرها بالدرعية وبوادي حنيفة الذي يُفضي إلى اليمامة، فبلد الحيسيّة في قاع الوشم، فثرمداء فشقراء فعنيزة وبريدة في القصيم. وبعد أن قضى الريحاني وصحبه ستّة أيام في “الدبدبة” وصلوا إلى “الجهرا” صباحاً، وما أبهجها ساعة أطلّوا فيها على البحر! وأناخ الربع ليرتدي كلّ منهم كُسوَته الجديدة التي أنعم بها الملك عبدالعزيز قبل السفر من الرياض، ولبسوا النجاد النجدي فوق الكسوة. وكان الريحاني قد عاهد رفاق السفر، وهُم على أسوار الكويت، أن يدخله وإياهم على ظهور الركايب، وأن تسير القافلة في أسواق المدينة وكأنها موكب من مواكب النصر والفخار! ولكنهم قبل أن يصلوا المدينة رأوا سيارة قادمة، وقفت ودنت منهم، فخاطب المُرافق: “من؟ الشيخ أحمد؟ نوّخ نوّخ”! لقد كان في السيارة راكبان من طرف الشيخ “أحمد الجابر الصباح”، يحملان إلى الريحاني كتاب السلام والترحيب كان أول ما استرعى نظر الريحاني وهو داخل الكويت من البَرّ، ذلك السور الكبير الذي بناه أهلها، وهو سور يُحيط بالمدينة من جهات البَرّ كُلّها، طوله خمسة أميال، وعُلوّه نحو أربعة أمتار، وسُمكه في بعض الأحيان مترٌ أو يزيد، فيه المعاقل والكُوى للرمي والدفاع، وله بوّابات ثلاث يُقيم الحرس عندها، وتُقفل في الليل. دخل الريحاني المدينة، ووقفت السيارة التي أقلّته ورفيقيه في الساحة الكُبرى، فترجّلوا ومشوا باتّجاه صَفّ من الناس جالسين في الفلاة على مجالس مبنيّة من الحجارة والطين، فلما دنوا منهم وقف من كان جالساً في الوسط ووقف على إثره الجميع: هو الشيخ أحمد الجابر؛ حاكم الكويت.. لقد خرج من قصره بحاشيته ليستقبل الضيوف في المكان الذي يجلس فيه الناس. رأى الريحاني هذا المشهد البعيد عن الرسميات، فقال: “ليس أحَبّ إلى السائح، وليس أقرب إلى الديمقراطية الحقّة والمُساواة، من هذه المُقابلات الملكية في الفلاة”. هنّأ الشيخ ضيفه العربي على سلامة الوصول، وأعرب عن دهشته لسفره في البلاد العربية، هذه السفرة الطويلة، واستضافه في قصر الضيافة، وكتب الريحاني في مُذكّراته: “تالله ما تفعل البيداء وخشونة العيش، دخلتُ القصر في الكويت كأنني بدويّ لم يرَ في حياته قصراً جميلاً، تُزيّنه الأعمدة والقناطر، ولم يجلس مرّةً في صالة مفروشة بالفاخر من الرياش”. وفي صبيحة اليوم التالي أشرف الريحاني من رواق القصر على مرأى الّسُّفن والأدقال وقد اكتظّ بعضها ببعض.. إن سُفن الكويت ومراكبها مشهورة بحُسن شكلها وجودة صُنعها، وهي على أنواع: منها للعبور والتنزّه ومنها للحمولة ومنها للغوص. بيد أن السُّفن والمراكب التي رآها الريحاني تُستخدم في استخراج اللؤلؤ في موسم الغوص، وذلك لأن الكويت مدينة من مُدن اللؤلؤ على الخليج، وقلّما يُقارَن اللؤلؤ بمصدر آخر من مصادر الثروة، فهو موردها الذي يُموّل البلاد بما يلزمها من ضرورات المعيشة ونوافلها. وليس في برّ الكويت غير المفالي، وليس فيها أو في جوارها شيء يُذكر من النخيل، فهي تُضطرّ لأن تجلب التمر من “البصرة” أو “القطيف”. ولكن عندها اللؤلؤ، وعندها السُّفن التي تحمل إلى تُجّارها ما يشاؤون من البنادر القصيّة، فضلاً عن البواخر التي تجيئهم بالأحمال الكبيرة من “الهند” وسواها. رأى الريحاني في الكويت مدينة تجارية مثل “جيزان” و”ميدي” على البحر الأحمر، وإن كانت تزيد عليهما في عدد السكّان، وتعتمد الكويت في تجارتها على “المُسابلة”؛ وهي أن يجيء العرب إلى المدينة فيُسابلون ما يحتاجون إليه من ملبوس ومأكول، وغالباً ما يجيئون في الصيف فيشترون ما يلزمهم لفصل الشتاء كلّه، ويدفعون ثمنه بعد أن “يُصلحوا” مواشيهم؛ أي بعد أن يُربّعوها ويستثمرونها في أواخر الربيع. أما أكثر من يجيئون للمُسابلة فهُم من “نجد”، يجيئون إلى الكويت ويُفضّلونها على “البصرة” و”الزُبير”، لأنها أقرب، ولأنهم يجدون في أسواقها دائماً ما يحتاجون إليه، ولأن تُجّار الكويت يتساهلون معهم، فلا يتقاضونهم دفع ما عليهم ولو مرّ على الدَّين سنتان أو ثلاث، وهُم مع ذلك قلّما يخسرون. أيّة ضمانة يُقدّمها النجديّ للتاجر؟ : قسماً بالله! فهو إذا غاب عشر سنين، وعاد إلى الكويت، وليس معه غير جمله، يجيء به إلى التاجر قائلاً: “هذا حلالك”! وإذا توُفّي النجدي قبل أن يفي ما عليه، وكان قد نمّا ماله، أي مواشيه؛ يجيء أحد أبنائه أو أنسبائه بما يكفي منها لتسديد الدَّين أو بعضه، فيُقدّمه للتاجر قائلاً: “هذا حلالك من فلان، ترحّم عليه”. إن رغبة تُجّار الكويت في المُسابلة إذن لمثل رغبة أهل نجد، بل هُم أشدّ؛ لأن النجديين هُم مصدر تجارتهم الأهمّ، وهُم يستطيعون أن يتساهلون بدفع المال أكثر من سواهم، لأن رأس مالهم أكبر، بسبب مدخول الكويت الآخر من تجارة اللؤلؤ.