فيلم هوبال.. قيود الفكر الأعزل.
الصحراء ليست مجرد امتداد من الرمال والفراغ، بل هي فضاء حي يعكس تناقضات الإنسان وصراعاته الداخلية. في فيلم “هوبال” للمخرج عبدالعزيز الشلاحي وكاتب السيناريو مفرج المجفل، تتحول البادية السعودية إلى مسرح مفتوح يلتقط أصداء التوتر بين الإيمان والتساؤلات الوجودية، مقدماً سردًا عميقًا ينسج بين القسوة والبساطة في آن واحد. الفيلم يستعرض قصة الجد “ليّام” (إبراهيم الحساوي)، الرجل الذي يهرب من صخب المدينة وضجيجها ليعزل نفسه وعائلته في أعماق الصحراء، مستندًا إلى إيمانه بأن نهاية العالم وشيكة. تدور الأحداث في زمن حرب الخليج الثانية، حين كانت الأرض تهتز بتحولات سياسية وعسكرية هائلة، بينما يختار ليام أن يحمي عائلته من هذا العالم المضطرب عبر الانغلاق الكامل. عزلة ليام ليست مجرد قرار مكان، بل هي انعكاس لفكر مغلق يغذيه الخوف والرغبة في السيطرة. يتجلى هذا في كلمته الصارمة التي تلخص موقفه: “الديرة حرام عليّ وعلى هلي، اللي يدخلها أنا بري منه إلى يوم الدين.” هذه العبارة تعكس قسوته في فرض معتقداته وتحذيره من الخروج عن مساره. وتؤيده الجدة أم شنار (نورة الحميدي): “أبوكم عزلكم عن الناس علشان يحفظكم من كل مكروه”. لكن الصحراء التي تبدو لأول وهلة كأنها صورة للجمود، تبرز كعامل تغييري ومواجهة. مع تفشي مرض الحصبة في العائلة، تبدأ القيم التي أسسها ليام بالانهيار شيئًا فشيئًا. وهنا يظهر الصراع الحقيقي: بين الانقياد لسلطة الجد المتسلطة والبحث عن الخلاص في المدينة، التي تمثل الخطر والأمل معًا. المرض كعنصر رمزي، لا يهدد فقط الحياة الجسدية، بل يكشف أيضًا حدود الفكر المغلق، واضعًا أفراد العائلة أمام اختبار يعيد تشكيل نظرتهم للخوف والحرية والحياة. العنوان هوبال، المستوحى من لغة تواصل أهل البادية مع إبلهم، يحمل رمزية أعمق بكثير من مجرد دلالة ثقافية. إنه يعبر عن الحاجة الإنسانية الملحة للتعبير والاتصال حتى وسط القمع والصمت. ليام بعقيدته الأحادية وشخصيته الصارمة، يتجلى كرمز للفكر الذي يحاصر نفسه في دائرة مغلقة. أحد أكثر المشاهد قوةً في الفيلم يظهر ليام وهو يختفي في تجويف الأرض، في مشهد يبدو وكأنه دفنٌ لأفكاره قبل جسده. هذا الفعل الرمزي يفتح المجال لعائلته لمواجهة مصيرهم بأنفسهم، دون قيوده. وسط هذا الصراع، يلعب الزوجان “شنار” و”سرا” دورًا محوريًا في مقاومة الجمود المفروض. “شنار” (مشعل المطيري) يرغب في التحرك نحو المدينة، لكنه يرفض مخالفة والده ليام. في المقابل تجسد “سرّا” (ميلا الزهراني) القوة الأنثوية في مواجهة التحديات. معًا، يعكسان الحاجة إلى التعاون والمرونة في مواجهة الأزمات. رغم قوة الفكرة وسعة رمزيتها، يعاني الفيلم من بطء في الإيقاع وجمود في بعض مشاهده. قد يبدو ثقل الفيلم تحديًا للمشاهد العادي الذي يبحث عن تسلية سينمائية سلسة، إلا أن هذا الثقل يشكل جوهر العمل. هوبال ليس فيلمًا يسعى للتسلية، بل هو دعوة للتأمل في معنى الانغلاق الفكري وآثاره المدمرة. الصحراء، التي تبدو كأنها رمز للعزلة والجمود، تظهر كمعلم يختبر الإنسان ويدعوه للتغيير. في قسوتها، تُذكرنا بأن الخيارات دائمًا موجودة، لكنها تتطلب الشجاعة لمغادرة المألوف واستكشاف العالم الواسع. في النهاية، يُظهر فيلم هوبال كيف يمكن أن يتحول الفكر المغلق إلى قيد أعزل، ينهار أمام أول مواجهة مع الواقع. وبينما يضعنا العمل أمام قسوة الحياة، فإنه يفتح نافذة أمل عبر الانفتاح والتنوع، مؤكداً أن النجاة تكمن في التحلي بالشجاعة لمواجهة التحديات والتغيير.