«رحلة عمر» لمعالي الأستاذ محمد بن عبدالله الشريف..
اهتمام مبكر بكشف الفساد وهدر المال العام.
ارتبط اسم الأستاذ محمد بن عبدالله الشريف بالنزاهة ومحاربة الفساد، فقد كان الرئيس المؤسس للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وكان ذلك تتويجا لرحلة إدارية طويلة، كان فيها عضوا في مجلس الشورى ثلاث دورات، وقبلها كان وكيلا لوزارة المالية ثلاثة عشر عاما، أما ديوان المراقبة العامة فقد قضى فيه اثنتين وعشرين عاما، تدرج فيها من مدقق حسابات الى وكيل الديوان المساعد، كما عمل على الآلة الكاتبة بإدارة الجوازات عامين، وقد حصل على شهادته ما بعد المرحلة الابتدائية بالدراسة الليلية وبالانتساب، درس الإدارة بجامعة الملك سعود ثم حصل على الماجستير من جامعة جنوب كاليفورنيا. هذه الرحلة الثرية أنتجت خمسة كتب في المجال الإداري، وحيث إنه من هواة الأدب فقد ألف فيه أربعة كتب، وليتها جميعا تتاح للقارئ من خلال برامج القراءة على الشبكة. إذن بعد هذا الإنتاج، هل ما زال هناك حاجة لكتاب في السيرة يضم صورا من التاريخ الاجتماعي؟ بالطبع نعم، فإن كتابة السيرة، تجعل الكتابة أقرب الى قلب المتلقي، وخاصة حين يجد أن الحياة لم تكن دائما يسيرة، كما إنها تؤسس لفهم الإنتاج العلمي والأدبي لصاحبها. يرى الكاتب أن تدوين السير هو بمثابة دين على ذوي التجارب، يفيد غيرهم ممن يأتي بعدهم، ويقيم تواصلا بين الأجيال، ويتمنى لو كانت مواد السير جزءا من البرنامج التعليمي، يربط الماضي بالحاضر، خاصة وأن حياة المؤلف بدأت بعد توحيد أرجاء السعودية بقليل، عاصر فيها مرحلة التأسيس الصعبة، ثم الانتقال إلى اقتصاديات النفط والتحديث. ولذا فقد مرت في طريق طويل لم تخل من وعورة و تعرجات، منذ كان في قرية المفيجر التي تجاور مرتفعات جبل طويق، قرية يعتمد أهلها على الزراعة و بيع تمورها، مورد أبيه يأتي من وقف للمسجد فيه عشر نخلات وبقرة، ترعاها الأسرة كلها، وكم أكلها الجراد، إفطارهم وغذاؤهم تمر، وعشاؤهم جريش يطبخ في بعض الأحيان مع مرق يأتي من غلى الماء بعظام اغنام لم يبق فيها أثر للحم، أما اللحم فيجدون منه نصيبا في عيد الأضحى، إن مرضوا فالدواء بالكي، أو بالرقية، تجتاح أجسامهم أمراض الجدري الذي كان يسلب المصاب حياته أو يأخذ نور بصره، وكذلك البلهارسيا التي يعتقد الكاتب أنها سبب لأمراض الكبد التي أماتت أخويه، وهكذا، لا مدارس إلا مدرسة المسجد لتعليم القرآن، لا كتب ولا أوراق ولا أقلام، وإنما لوح خشب يكتبون عليه و محبرة يغمسون فيه عودا استصلحوه من سيقان الذرة، ورغم هذا فقد تعدد حفظة القرآن منهم. أهل القرية يستعملون الحمير في تنقلاتهم القريبة، وإن احتاجوا للسفر فهناك الجمل، وأخيرا رأوا السيارات. في الشتاء يتدفأون بإشعال الحطب الذي كان دخانه يؤذى عيونهم، وفي الصيف يغطسون بثيابهم في البرك طلبا للبرودة، وينامون تحت مقطار القرب فتنزل عليهم قطرات ماء نضحت من القربة تشعرهم بشيء من البرودة. ولعل بيوتهم الطينية كانت أفضل من بيوتنا الاسمنتية لأنها أفضل عزلا للحرارة والبرودة. توفى ابوه وهو في حوالي الثامنة، و رأى أهله أن يرسلوه عند أخت متزوجة تعيش في الدمام، سافر مع قريب له إلى الرياض، بهر بالاختلاف بينها وبين قريته، رأى المطاعم و تذوق الفول لأول مرة، وشاهد الشوارع الواسعة التي تمر بها السيارات والحمير، ونزل في “مضوف ثليم “ وهو جزء من قصر للملك عبد العزيز ينزل بها القادمون الى الرياض ثلاثة أيام حتى يجدوا وجهتهم، يطعمون رزا مطبوخا بلحم الجمل أول يوم ثم رزا مطبوخا بغير لحم في اليومين التاليين، نصحه قريبه أن يجد عملا ليجد نفقة رحلته الى الدمام، وجد عملا في قصر الملك عبدالعزيز بالمربع، والعمل المطلوب هو أن يقرأ القرآن عند إحدى زوجات الملك عبدالعزيز وزائراتها، وكانت في عمر أمه، والعمل ساعة في الضحى، وأخرى بين المغرب والعشاء، سُرت النساء بقراءته التي أتقنها على يدي والده، و حُدد له مكان للنوم والطعام، وذاق الحلاوة الطحينية، وظنها من طعام أهل الجنة. وحتى يسافر للدمام كان عليه أن يراجع مركزا للشرطة، أعطوه دفترا صغيرا بدون صورة، مكتوبا عليه تذكرة مرور برية، سافر إلى الدمام في سيارة بضائع، حيث يُفرش للركاب فوق البضاعة، و لأن الطريق كانت ترابية فقد كان الركاب يتدحرجون مع التعرجات التي يمرون بها. كانت سفرة شاقة. كانت الدمام مدينة صغيرة آخذة بالتطبع بطباع موظفي أرامكو من حيث الانضباط واحترام أنظمة المرور، أنشأت أرامكو محطة تلفزيون بالعربية، وكان لها مستشفى كما كانت تصدر مجلة القافلة التي ساهمت في إشاعة الثقافة بين السكان. وحتى يبدأ الدراسة في المرحلة الابتدائية كان عليه أن يحصل على حفيظة نفوس من دائرة الشرطة، وفي المدرسة قرروا أن يبدأ بالصف الثاني بما لديه من قرآن ومعرفة بمبادئ الكتابة. وبعد انتهائه من المرحلة الابتدائية، كان عليه أن يجد عملا ليساعد أهله، ولذا عمل كاتبا على الآلة الكاتبة في دائرة الجوازات، ومضت سنة ولم يبدأ التدريس في المدارس الليلية في الدمام، فطلب الانتقال الى الرياض، وقد كان، وبدأ الدراسة في المدرسة الليلية، ثم وجد عملا كمدقق حسابات في ديوان المراقبة العامة، وأخذ يدرس بالانتساب في الجامعة، وهو هنا يقدم وصفا بانوراميا لشكل الرياض الحديث في أوائل ستينيات القرن الميلادي الماضي، حدائقها وطرقها ومكتباتها وأحياؤها ، وهي صورة مشوقة خاصة اذا قارنتها بما هي عليه اليوم. في ديوان المراقبة تدرج في المناصب حتى وصل إلى أن يكون نائبا للرئيس، وقد أصدر كتابا عن الرقابة المالية في السعودية، ويذكر تجربتين استطاع أن يكتشف هدرا للمال العام أحدهما في تموين مستشفى الشميسي، والآخر في برنامج التغذية المدرسية، كما رأس وفد المملكة الى مؤتمر المنظمة العالمية للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة، وبذل جهدا مثمرا لتقرير اللغة العربية كإحدى لغات المنظمة المعتمدة. انتقل بعدها للعمل وكيلا لوزارة المالية، والفصل الذي كتبه عنها يشبه التقارير المهنية، ذكر العوائق الإدارية للعمل، وتحدث عن مشكلة الاستغراق في الروتين الورقي، وأهمية التفويض الإداري، ومعالجة مشكلات الموظفين، يذكر أن بعض الموظفين صار يجمع بين العمل التجاري وعمله الوظيفي، وقل من يجتمع له النجاح في العملين، فكان يجتمع بكل موظف من هؤلاء ويرشده إلى أن يختار بين الاثنتين حتى يضمن النجاح. ومما ذكره أنه كان يرأس اجتماعات الشركة السعودية المصرية للتعمير، وكانت الشركة تبني أبراجا سكنية متميزة، ورغم أن التملك في هذه الأبراج كان متاحا للجميع إلا أنه تجنب ذلك، خشية أن يحظى ما يتملكه بشيء من الاهتمام أكثر من غيره، وبصفته رئيسا فان القانون يمنحه حق النزول في جناح خاص بالفندق، لكنه وجه بحجز غرفة مفردة، فقيل له: إنك تحتاج إلى جناح لأنك قد تستضيف بعض الاجتماعات، فقال: إنه لو احتاج فسيجتمع بمن يريد في بهو الفندق. كما يروي أنه كان عضوا في مجلس إدارة مؤسسة تحت الإنشاء (سمارك)، كانت الشركة تحت التأسيس، وقد كادت الشركة توقع عقدا مع أحد المستثمرين لبناء المقر، لكن الكاتب وجد أكثر من نقطة تحتاج الى مزيد من الدراسة، أحيلت ملاحظاته للمتابعة، وتم تأخير العقد، ثم تمت إحالة كل المشروع إلى أرامكو، وبذا وفرت الدولة ما كان سيدفع للمستثمر قبل إقرار المشروع. اختير الشريف عضوا بمجلس الشورى، وقد بلغه أن الشيخ محمد بن جبير رئيس مجلس الشورى قد وجه إدارة المحاضر أن يضمنوا محاضرهم نصوص مداخلات محمد بن عبدالله الشريف كما هي، وهذا تقدير رفيع يدل على أن مداخلاته كانت مدروسة ومصاغة بشكل دقيق. وقد كتب عن زيارة بصحبة أعضاء من المجلس إلى السويد والنرويج وفنلندا وأيسلندا، التقوا فيها شخصيات مهمة، وزاروا مراكز سياسية مرموقة، وقد لفت نظره ميل القوم للنظام واحترامهم للعمل، كما وجد ان أكثر الشخصيات المهمة لا يمتلكون سيارات، وكثرة من يستخدمون الدراجات الهوائية وخاصة طلبة الجامعات، وأن المواصلات العامة راقية و نظيفة ودقيقة المواعيد، وأنه لا يوجد حمالون للحقائب في مطاراتهم ، كما أن الطائرات التي توصل بين المدن الأوروبية كلها درجة واحدة، فليس هناك درجة أولى و ثانية، وغلاء الاسعار شديد . تجربته في مجلس الشورى أثمرت كتابا شارك فيه مع مجموعة من زملائه، وقد عرض الكاتب هنا المحاور السبعة المهمة التي ناقشها الكتاب. وفي الفصل الذي كتبه عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لفت نظري الاهتمام بوضع قيم العمل بعد صياغة الرؤية والرسالة وتحديد الأهداف، والقيم هي: الالتزام الأخلاقي، الشفافية والعدالة، السرية وحماية المصادر، الخ وهو أمر بالغ الأهمية يحمى أي مؤسسة من الفساد والترهل وفقدان الحماس. وقد لفت نظري التزام الهيئة بمبدأ عدم توظيف الأقارب حتى الدرجة الثالثة، واعتبار عكس ذلك نوعاً من الفساد. تمنيت لو أن الكاتب عاد إلى قريته المفيجر، ورسم صورة حرفية عن التحديث الذي سارت فيه، لتكتمل رحلتنا المثيرة معه في التاريخ الاجتماعي للمكان والإنسان.