في رواية صباح ومساء للنرويجي يون فوسيه ..

اقتناص اللحظات المذهلة في الحياة .

عنوان الرواية يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، ولكن مع قراءتها يتّضح مدى عمقه، فكل صباح يحفل بتفاصيل حياتية جديدة لم نرها أو نعشها في صباحٍ سابق، والأمر ذاته يأتي على كل مساء. وكما أن للصباح- الذي يشير إلى ساعات النهار- مزاياه وجديده، كذلك الأمر بالنسبة للمساء الذي يشير إلى ساعات الليل. من هنا فإن رواية (صباح ومساء) لمؤلفها النرويجي يون فوسيه هي رواية اقتناص اللحظات المُذهِلة في الحياة، تلك اللحظات التي تمرّ دون أن ننتبه إليها، أو نتعمَّق فيها. وهي لحظاتٌ بالِغة الأهميَّة تُريد الرواية أن تقول لنا بأن حياتكم ستتغيَّر كثيراً نحو الأفضل إذا توقّفتم عندها، وستكونون في غِنى عن الكثير مِن الإشكالات التي قد تواجهكم. أهمية الأشياء التي تبدو بسيطة ربما مجرَّد موقف بسيط نمرّ به مرور الكِرام، ولكنَّه يكون بداية لكارثة ستقع علينا، وربما لكلمة بسيطة نلقيها بشكلٍ سريعٍ، تتحوَّل إلى سببٍ يلحق بنا ضرراً كبيراً. وعلى النقيض من ذلك فيمكن لموقف نراه بسيطاً أو عابراً أن يؤسّس لمرحلة مزدهرة كُبرى في حياتنا على مختلف الصعد. من هذا المُنطَلَق فإن الرواية تدعو إلى الحَذَر الشديد من أشياءٍ قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة، لذلك نرى التكرار في إعادة كتابة الجُمَل والكلمات لمراتٍ عديدة في ذات الصفحة أو ذات السياق، ولكنَّه يكون موظَّفاً بعنايةٍ وليس بشكلٍ عشوائيٍ، والتكرار لا يكون عاماً، بل في بعض العِبارات وفي بعض المواقف، فالعبارة يمكن لها أن تتكرَّر مرات عديدة، وكذلك بدقَّةٍ في انتقاء الكلمات، ووصف الشخصيات حتى يتوقَّف القارئ عندها لأن كل تكرار من شأنه أن يوسّع مِن معنى العِبارة أكثر. فقد نرى البساطة في بعض الأشياء، ولكنَّها في حقيقتها يمكن أن تفصح لنا عَن جماليات مذهلة في الحياة لا يمكن لنا أن نكتشفها أو نستمتع بِها إلّا مِن خلال تلك الأشياء البسيطة. وتبدو الرواية مكثَّفة في لغتها وأسلوبها، وهي تنتمي إلى صنف الروايات القصيرة إذ تقع في 62 صفحة، وتبدأ الرواية بولادة (يوهانس) الحفيد، وتنتهي بموت (يوهانس) الجد. التقاط التفاصيل تبدأ الرواية في تصوير مشاعر الأب (أولاي) وهو ينتظر أن يسمع الصرخة الأولى لمولوده من زوجته (مارتا)، حيث القابلة العجوز(آنا) حضرت من أجل ولادتها. صرخة المولود الأولى التي تعني للأب انتقاله إلى مرحلةٍ جديدةٍ من الحياة، تحرّك فيه مشاعِر الأبوّة لأوّل مرّةٍ: (فجأة تُسمع صرخة مكتومة تصدر من غرفة النوم، فیمعن أولاي النظر في عيني القابلة (آنا) ويومئ لها وتَلوح على وجهه ابتسامة بينما يقف هناك من دون حراك. تقول القابلة العجوز آنا: الصبر يقول أولاي: إذا كان ولداً سنسميه (يوهانس) تقول القابلة آنا: سنرى. يقول: يوهانس نعم، تيمناً باسم أبي. ويرقب أولاي القابلة العجوز (آنا) وهي تمشي متجهة إلى باب حجرة النوم حاملة وعاء الماء الساخن بين ذراعيها الممدودتَين، تتوقف أمام الباب، ثم تلتفت إلى أولاي وتقول: (لا تقف هناك هكذا) ص5 ، 6. تبقى الرواية مركّزة على فكرة التقاط التفاصيل التي تبدو صغيرة في الحاضر مِن خِلال البيت الجديد الذي أسّسه هذا الأب مع زوجته، وها هو مولودهما يأتي ومعه تفاصيل جديدة يضفيها على حياة أبوَيه، وهما يُراقِبان كل تحرّكاته: (ويرى “أولاي” “مارتا” تربت وتربت على ظهر يوهانس الوليد وهي تقول: هيه اهدأ، لا تبك كل شيء سيكون على ما يرام. تقول مارتا وأنفاسها ما تزال تخرج عميقة بطيئة، نوع من الأنفاس الذي يأتي من مستقر ساكن فيها وراء الكون: هكذا يفكر. “أولاي” وهو يقف بجوار السرير حيث ترقد مارتا والمولود يوهانس، يصرخ ويصرخ، وحيث يمكن للمولود يوهانس أن يسمع نفسه يصرخ عالياً وهو يقبل على العالَم، وصرخته تملأ أرجاء الكون الذي هو كائنٌ فيه ولم يعد هناك شيءٌ دافئٌ وأسود ويميل للحمرة ومبلل وكلي، فلا شيء الآن فيما عدا حركاته، إنه هو مَن يملأ الآن كل شيء، وهو وصوته منفصلان وفي نفس الوقت غير منفصلَين كما يبقى هناك أيضاً شيءٌ آخر هو جزء منه ولكنه ليس كذلك، لأن صوته نفد عبر الأثير هناك وجنح نحوه وأخذ يتعالى ويتعالى) ص 11. وكأن الرواية تترك سؤالاً وهو: هل أن كل شخصٍ هو تكرارٌ عَن أبيه، وأن أباه هو تكرارٌ عَن جدّه؟ والجواب: أجل يمكن أن يحصل هذا في حال لم يصنع من نفسه شخصيَّةً جديدةً ومستقلّة، فالجدّ هُنا صيّادٌ، والأب نسخة عنه صيّادٌ، والحفيد نسخة عنهما صيّاد، وكذلك فإنّ (أولاي) نفسه أيضاً قد سمّي بهذا الاسم نسبة إلى جدّه. بين الماضي والحاضر بعد أن تصوّر الرواية ما يقع في البيت الجديد الممتلئ بالحركة والحيويّة مع الحفيد يوهانس وأبوَيه، فإنَّها تنتقل لتصوّر حياة العزلة التي يعيشها “يوهانس” الجد بمفره بعد أن فارقه الجميع وماتت زوجته، وبقي وحيداً وهو يسترجع ذكريات الماضي. وتبدو حياته جامدة لا جديد فيها، وتمضي عليه الأيام المُكرَّرة ذاتها، وهو مستغرق بتذكّر أمجاد الصيد السابِقة عندما كان صياداً ماهِراً، وكان البيت ممتلئاً بالزوجة والأبناء: (ولكن مهما قام بتدفئة المنزل، فلا یكون دافئًا أبدًا، ومهما أضاء من مصابیح، فلا یكون منيراً أبداً، ولهذا فقد یكتفي بالبقاء في السریر ویأخذ وقته حتى ینهض، لكن حري به ألا یستسلم، عليه أن یحافظ على لیاقته، علیه أن یفعل شیئًا ما، وإلا سيجمد ويموت من الجوع لأنه لم یعد بالتأكید شاباً یافعًا، ذهب عنه الشباب منذ أمد بعید، هكذا یفكر والآن یجب أن ینهض من السریر ویقف على قدمیه) ص 14. تستمر الرواية وفق تقنية الخطف خلفاً بالعودة إلى ما مضى من حياة هذا الجدّ العجوز. فالرواية توثّق كل هذه الأحداث والمُجريات التي تقع مع الشخص في علاقةٍ ما بين الماضي والحاضِر، وتبيِّن بأنَّها تبقى الرصيد الأكثر فاعليَّة عندما يرى الإنسان نفسه فجأةً وقد أصبح وحيداً في البيت. وهكذا نرى (يوهانس) الجد يبقى يعيش على ذكرياته مع زوجته الميتة (إرنا)، وكان قبل ذلك يعيش مع أولاده وبناته عندما كانوا يعيشون معه في البيت، ولكن تزوَّج كل واحدٍ منهم وأصبح له بيته الخاص به، وبين فترة وأُخرى تقوم ابنته (سيجنة) بزيارته، وأحياناً يذهب لزيارة ابنه (بيتر). هامش................... صباح ومساء، فون يوسه، ترجمة شيرين عبد الوهاب، وأمل رواش، عدد الصفحات 62، الطبعة الأولى، منشورات دار الكرمة في القاهرة 2018.