« هَسْهَسة الخلخال».. القصيدة في رؤية الشاعرة تهاني الصبيح.

هل يحق لنا القول، ونحن في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، أن البحث عن السمات الفارقة لتجنيس القصيدة؛ بين أنثوي وذكوري، أصبح من الماضي الذي تجاوزناه؛ كغيره من المفاهيم في حداثتنا الأدبية هذه؟ فمن مبدأ المشابهة في النظر إلى مفهومي الكينونة والوجود الذي تحتفي بهما القصيدة الحديثة، لا توجد فروقات تذكر يمكن الإشارة إليها والارتكاز على معناها عند الحديث عن مفهوم الشعر لدى الجنسين. فالتعبيرات الشعرية الثرية للشعر النسائي المعاصر، في الغرب كما عندنا، نجد فيه - وكما شهد بذلك - الشاعر أدولفو جوستافو بيكر على الكاتبات المعاصرات أنهن «يواجهن الواقع برؤية سريالية عميقة، وأحياناً مريرة، وأحياناً أخرى متفائلة.. لمواجهة الحياة بكل موضوعاتها الكبرى للحضور الإنساني المعاصر». إلا أن رأي مدام دو ستايل قد يكون محل اعتبار في إعلائها من موضوع «الحزن» بالنسبة لمشاعرها كأنثى ينطبع به منجزها الإبداعي، وتعتبرها خصيصة نسائية، حيث يصبح الشعر الحزين: «أكثر انسجاماً مع الفلسفة، فالحزن أفعل وأبعد أثر في طبع الإنسان ومصيره من أي حالة نفسية أخرى». وهذا الملمح نجده أيضاً لدى الشواعر؛ كالخنساء في رثائياتها وغيرها من سيدات الرعيل الشعري العربي الأول؛ حين كانت «أغلب أبيات الرثاء من نظم الشاعرات»، كما توصل إلى ذلك المستشرق المجري جولدتسيهر. تهاني الصبيح، الشاعرة السعودية المعاصرة، وعلى الرغم من حضور الرثاء في ديوانها «وجهُ هاجَر» بشكل لافت، إلا أنها في بقية مواضيعها، وبالأخص عن مفهوم «الشعرية» لا نجد فيه أي تمايز بينها وبين أي شاعر ذكر تناول الموضوع. فهي تفتتح ديوانها ببيت شعري تقول فيه: يراعتي بُرعمٌ في النخلِ أحملُهُ وكلُ عينٍ بهذي الأرضِ مِحبرتي فهذه الافتتاحية بما توحيه من انشداد إلى موطنها - الأحساء- بطبيعتها الخضراء الزاخرة بعيون المياه الجارية، حيث روحها تخلقت في تلك البيئة التي أمدتها بمعين من الجمال أثر على رؤيتها للأشياء، وأطر منظورها للحياة. وباللغة أيضاً (اليراعة والمحبرة)؛ حين عملت كوسيط حسي معبر وناقل لتلك والأفكار والرؤى التي أسهمت في تشكل شخصيتها وما تكون عليه الآن. «إليزابيث درو» تتفق مع الشاعرة، فبهذا المزيج - البيئة واللغة - «يتخلق جسماً جديداً مادياً لوعي الشاعر، وأن عالم الحواس وعالم الفكر الداخلي والعاطفة لا ينفصلان لدى الشاعر، وفي ألفاظ الشاعر يتداخل كلا العالمين». جموح المشاعر، ترققها اللغة: أما نصها «انفجار مؤقت» - والذي سيكون محور قراءتنا - فتنشئ فيه الشاعرة حوارية بينها وبين القصيدة، وتضع فيه مفهومها عن لحظة الانبثاق الشعري ومحرضات الانبعاث؛ مما يوحي بأن هذا النص هو بيانها الشعري. فمن العتبة تُسرِب لنا الشاعرة بعض مما تشير إليه من معنى. فالانفجار اللحظي في المشاعر المتدافعة التي وجدت طريقها إلى البوح من خلال الشعر، هو ما عناه هربرت ريد في إشارته للخاصية الخارقة التي يمتلكها الشعر، لكونه: «تحول مفاجئ تتخذه الكلمات تحت تأثير خاص». لهذا وفي الأبيات الأولى من هذه القصيدة، يتكثف المعنى ويندفع على شكل ومضات متتالية، بتقنية الإبراق بالمعنى وترميزه بإحالات روحية وتاريخية: الشعر في حرم الكلام قنوتُ فأنا ابنُ «متّى» والقصيدةُ حوتُ صوتي الحقيقةُ ملْءُ حَنجرتي ولا يطغى عليّ مع المجازِ خفوتُ فالشعر حالة انفعالية ترتفع فيها المشاعر إلى آفاق متعالية من السمو، وتنطق بلغة مغاير للطبيعة التواصلية للكلام العادي، وهي بمكانة المناجاة المتأملة «قنوت». وإرهاصاته تقترن بالروح المتأزمة والمحاصرة بهموم ترجو الانفلات منها؛ شبيهة بحالة النبي يونس، واستعارة «الحوت» تجعله بمكانة المصهر الذي تنضج فيه الانفعالات وتتشكل على هيئة بوح شفيف. سحر المجاز وطاقته: لطالما أذهلت القصيدة صانعها قبل متلقيها؛ ذلك أن حالة الانجذاب والغوص نحو الداخل العميق والذهول عن الخارج المحيط أثناء تخلق القصيدة هو المثير. فيتفق الشعراء - حسب ما تقول إليزابيث درو - على أن «ينبوع فنهم يقع خارج ملكاتهم الواعية، فهو طاقة لا يملكون التحكم فيها، وهي تذهب وتجيء، كما أن موهبة الشعر يحتجب عرشها في طبيعة الإنسان الخفية». فهذا الغموض حول مصدر الإلهام الشعري، هو ما تم عزوه إلى «عرائس الشعر» في اليونان، أو الجن والشياطين في موروثنا العربي القديم. والجن في هذا المعتقد يقبل أن يكون ذكراً وأنثى، فقد زعموا أن الأعشى كان له شيطان ينفث في وعيه الشعر يسمّى «مسحلا» وأن شاعرا كان يهاجيه يسمى عمرو بن قطن، كانت له تابعة من الجن اسمها «جهنّام». ويؤكد الأسطورة الشاعر أبو النجم في قوله: إني وكلّ شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطانى ذكر شاعرتنا تهاني، ينتابها نفس مشاعر العجب من أثر عملية الخلق الشعري، فتعزوها بدورها إلى قوى ميتافيزيقية لأول وهلة. ثم سرعان ما تنفي ذلك بتجريد المعنى وتعويمه لاستحالة فهم كنهه: فالشعرُ سحرٌ واللغاتُ دلائلٌ نزلتْ وعلمّنا بها «هاروتُ» نجمٌ يشفُّ عن الكنايةِ حينما في وهجهِ يتلألأُ الياقوتُ حجرٌ سننقُشُ بالمعاني شكلهُ وعلى جِدارِ كلامِنا منحوتُ أجنحة الكلمات وهَسِيس خفقها: يصف الشاعر الأمريكي روبرت فروست بنية القصيدة على أنها: «أداء فني بالألفاظ»، أي أن الشعر في حقيقته موهبة ومهارة فنية مادتها اللغة لذا؛ جرى العرف بتصوير هيئة حضوره ببقية أصناف الفنون الأخرى. فالشاعر اليوناني سيمونيدس يقرنه بفن الرسم، إلا أن «الرسم شعر صامت بينما الشعر رسم صائت». ومن جانبها، الشاعرة تهاني، تربطه بالموسيقى بتوافق ضمني على فنيته وغايته الوظيفية لمقدرته على تهدئة المشاعر وكسر تحجرها عند الألم: فإذا عزفتُ على القصيدةِ ينجلي وجعُ السكوتِ ولا يطولُ سكوتُ لذا؛ لا يختلف الشعراء على مقدرة الشعر على الحد من طغيان العواطف العنيفة، فبعضهم يذهب إلى تقييدها بأربطة حريرية من نسج القصيدة، كما عبر عن ذلك الشاعر «جون دن» في نصه: «وكما تنقي دروب الأرض المتعرجة الضيقة ماء البحر من ملحه المضطرب كذلك فكرت لو أنني استطعت أن أطبع آلامي في شعري... لنجحت في تخفيف حدتها». أما الشاعرة تهاني الصبيح بدورها، فتختار فضاءات الحرية علاجاً لتلك العواطف، وما تفسخه القصيدة من فضاءات غير محدودة من الفكر والإلهام؛ تختبر فيها حقيقة عواطفها لتطبيبها: وتعيرني الكلماتُ أجنحةً بها روحي تخِفُ - فُيشرَعُ الملكوتُ وأخيراً، تختم الشاعرة نصها بما عنونت به قصيدتها «انفجار مؤقت»، إلا أنه ليس تدميراً، بل أثراً باقياً؛ كانفجار الينابيع التي نرى أثرها على الجداول المائية: في داخلي انفجر الكلامُ ولم يزل للشعرِ بركانٌ بهِ موقوتُ هكذا إذن هو الشعر، مفرد لا يقبل جنسه الانقسام بين ذكوري وأنثوي. وأن القصيدة في جميع مراحل تكونها متشابهة لجميع من يمارسها، فهي حالة وجدانية متفردة؛ بل هي ليست وسيطاً لنقل تجربة الشاعر، إنما القصيدة في حد ذاتها تجربة، كما يجمع على ذلك الشعراء. والشعر بدوره، كما يقول الشاعر وليام بتلر ييتس: «يدفعنا لنلمس العالم ونتذوقه ونسمعه ونراه، ويعلمنا كيف ننصرف عن كل ما هو من نتائج العقل وحده، بل عن كل شيء ليس نافورة تتفجر من كل آمال الجسم وذكرياته وأحاسيسه». وهذا هو المفهوم الذي يمكن استخلاصه من رؤية الشاعرة تهاني الصبيح الشعرية. وبهذا، ليس هناك لون لرداء الشعر.. فمظهره لون الماء.