في مجموعة «أقنعة من لحم» لحسين السنونة..

المفارقة بين الغرائبي والواقعي.

يعمد القاص (حسين السنونة) في مجموعة “أقنعة من لحم”، إلى استدراج القارئ، عبر تقنيات سردية متنوعة، يختلط فيها الرمزي بالغرائبي، والتشويقي بالواقعي، خليط لا يفتأ يتوسع باستمرار، مع كل حكاية يمررها، مستخدماً داخلها عنصر المفارقة؛ ليثير الدهشة، ويستحوذ على التركيز. يتبدى الغرائبي في قصة “أقنعة من لحم”؛ فالرجل الجالس من نومه، يستعد للذهاب إلى عمله، وحين دخل دورة المياه، اكتشف أمراً مفزعاً؛ “ارتدى ملابسه واستدار نحو المرآة لكي يتفقد وجهه ويرتب شعره، توقف؛ وضع يديه على وجهه، يتحسسه مبحلقاً ومصعوقاً وصارخاً في صمت: وجهي.. وجهي، من أين أتى هذا الوجه؟ أين ذهب وجهي؟. عاود صراخه المكتوم: وجه كلب .. يا الله وجهي وجه كلب!”، وهنا يبتدئ الصدام مع القارئ. في قصة “ترانيم مواطن لا يتحرك” التي تحكي عن مواطن اتخذ “قراره بعد فقده الأمل في كل الخيارات”، حيث وقف “دون حراك، وقف في مكان مرتفع ليراه العالم كله؛ لا يتحرك إلى أي جهة” وهنا يبدأ الناس يتداولون أمره باعتباره “حدثاً نادراً” وصادماً، وحين جاءت الشرطة عجزت عن إقناعه بالعدول عن فكرته والجلوس على الأرض، وتكرر الفشل مع “وفود عربية وأجنبية” ومع “مندوب من الأمم المتحدة”، ومع “علماء دين وبطاركة”، وانتهى الأمر ب”قادة الدول للتدخل” ومحاولة إقناعه بالعدول عن رأيه. أما الواقعي فيتبدى في قصة “أشتاق للعناق فأستيقظ”؛ حيث لجأ القاص إلى تقنية الحلم؛ للإمساك بقارئه ودفعه إلى مواصلة قراءة الحكاية، التي تتحدث عن حالة مرضية تأتي “كل عام وأحياناً كل عامين”، إذ يُصاب بالأرق ولا يستطيع النوم، ويحتاج عناقاً حارًّا؛ لتجاوز مرضه، لكن زوجته تنام “نوماً عميقاً بشكل مستفز”؛ وهنا تأخذه الأفكار وهو ينظر إلى وجهها، فيتخيلها أولاً “فتاة ثم زوجة فأم، آه كم أتمنى أن أراه وجه جدة”، ويواصل رحلة الخيال ليطرح على نفسه سؤال: ماذا لو لم تقبل بي زوجاً لها؟ ويعترف أنه “مقصر جدًّا معها” وتسبب “في ظهور الشيب سريعاً في شعرها”، فهو “أناني، متبلد الإحساس”، وليس “أهلاً لتحمل مسؤولية زوجة وأولاد”. في قصة “الحب يجُبُّ ما قبله”؛ التي جاءت على شكل اعترافات، نجد البطل يتقدم لخطبة ابنة عمه لتكون الإطار المرجعي للقص، فمنذ البداية يقول: “أعترف لك يا عمي أني لا أعرف من هي أمي، ولا أمتلك حتى صورة لها”، اعتراف البداية جر وراءه اعترافات أخرى: “سأخبرك يا عمي أن أبي كان صاحب علاقات نسائية متعددة”، ثم ينتقل الاعتراف من الابن إلى أبيه الذي يدافع عن نفسه: “بني لا تصدق ما سوف تسمعه عني أني سكير معربد وزير نساء”، حينها يتمنى الابن رؤية أمه، فيطأطئ الأب رأسه وتدمع عينه، ويعترف ببعض الحقيقة: “كنت سيء السلوك ..عانقت نساء .. فعلت الكثير من المحرمات”، وأخيراً يقر بالحقيقة كاملة: “بُني لستَ ولدي الوحيد، ثمة اخوان وأخوات لك، هم يعيشون مع أمهاتهم..”. تحضر المفارقة كعنصر مشترك بين الغرائبي والواقعي، فالقصص تسير إلى نهايات مختلفة، بسبب اختلاف طبيعة البناء الفني، فقصة “أقنعة من لحم”؛ انتهت باكتشاف الزوج، أن وجهه عاد لطبيعته في صبيحة اليوم التالي، فتأتي المفارقة من جانب الزوجة، التي تصرخ حينما تراه: “وجهك غير طبيعي، ماذا حدث لك؟ وجهك وجه..!”، وكأن الأمور انقلبت إلى الجهة المعاكسة، فالطبيعي في نظر الزوج ليس طبيعيًّا في نظر الزوجة. في قصة “ترانيم مواطن لا يتحرك” يستجيب قادة الدول لمطالبه ويصدرون بياناً: “سوف نبني لك منزلاً، ونصرف لك راتباً شهريًّا، وسوف تكون الكهرباء والماء والاتصالات مجاناً لك مدى الحياة، ونوفر لك سيارة أنت من يختارها بنفسك، ونزوجك ممن يعشقها قلبك..”، المفارقة تأتي، بعد أن يستمع إلى البيان، حيث يبتسم “بينما لا يزال واقفاً منذ 1400 عام ولم يتحرك”، وهو ما يعيد القصة إلى فضائها العربي. أما ما يتعلق بالقصص الواقعية، فالمفارقة تأتي في النهاية، بعد أن يستوفي جميع الأحداث، لتكون خاتمة أخيرة، تعكس ما حصل قبلها، وتعتمد على عبارة متداولة، أو قول مأثور، أو بيت شعري؛ مثلما هو حال قصة “أشتاق للعناق فأستيقظ”؛ حيث الزوج يرغب في النوم، لكنه محتاج للعناق، بينما زوجته نائمة، فينقلب إلى الجهة الثانية، “وفجأة جسد دافئ يعانقني من الخلف”، فالمفارقة هنا في تحقق مطلبه بصورة عفوية، ودون أن تستيقظ الزوجة، مـتذكراً بيتاً “من قصيدة للشاعر الإحسائي أحمد الملا (أشتاق للعناق فأستيقظ)”. في قصة “الحب يجُبُّ ما قبله”، ابن الأخ يعتذر عن أفعال أبيه الطائشة، ولكنه يسأل عمه: “ألم تشعر بأنك بحاجة إلى الخروج على العادات والتقاليد لكن خوفك من المساءلة منعك”، عندها تنقلب ألوانه؛ لتصبح مثل “قوس قزح”، ثم تأتي النهاية لتكشف أمام القارئ الحقيقة، فالعم هنا ليس أكثر من شخص أراد الزواج من ابنته، وها هو ينتظر الإجابة “إما الرفض أو القبول”، وتنتهي القصة بعبارة مأثورة (الإسلام يجبُّ ما قبله)؛ حيث تم تعديلها ومواءمتها مع مجريات الأحداث لتصبح: “الحب يجبُّ ما قبله”. يُعاد تركيب الأحداث وترتيبها؛ لتتواءم مع عالم سردي، نحته القاص بيديه، وصاغ معالمه داخل ذاكرته الجمعية، إذ لا يتوقف عند المحلي والمناطقي، بل ينطلق إلى فضاء الوطن العربي الواسع، حيث الهموم والصعوبات متماثلة.