أدب الرسائل من أرقى الأجناس الأدبية التي حفل بها تراثنا العربي؛ رسائل الجاحظ, رسائل ابن المقفع, رسالة الغفران, ورسائل ابن زيدون, وغيرها من الرسائل التي احتفظ بها أدبنا العربي القديم في مدوّنته, وأبقاها فنًّا رفيعًا خالدًا عبر القرون. وبالنظر إلى أسماء كتّاب تلك الرسائل سنجدهم من عباقرة الأدب, وهم كذلك أيضًا في أدبنا المعاصر؛ رسائل جبران “ الشعلة الزرقاء” إلى مي زيادة, ورسائلها إليه “ المجتبى البعيد”, رسائل مصطفى صادق الرافعي “ أوراق الورد”, رسائل غسّان كنفاني وغادة السّمان, رسائل “ ورد ورماد” بين محمد برادة ومحمد شكري صاحب رواية الخبز الحافي, رسائل عبد الرحمن منيف إلى الرسام السوري مروان قصاب باشي. ولعلّنا نضيف إليها “ رسائل ناجية” لليلى القحطاني, وإن كانت لا تدّعي أنها من عباقرة الأدب أو الأسماء البارزة في الأوساط الأدبية. في الآداب العالمية أيضًا ثمّة رسائل أدبيّة معروفة وذائعة الصيت؛ “ رسائل إلى ميلينا” لفرانز كافكا, “ رسائل إلى فيرا” لفلاديمير نابوكوف, “ مراسلات غوركي وتشيكوف”, مراسلات تالستوي وغاندي “ دولة الحب”. وتتنوّع الرسائل الأدبيّة بحسب موضوعاتها؛ الحب الحرب الصداقة السياسة الفلسفة العلوم... إلخ. ما يميّز أدب الرسائل عن سائر الأجناس الأدبية الأخرى, أنّ كاتب الرسالة حتمًا سيقول فيها عن نفسه ما لا يمكن أن يقوله في أي جنس أدبي آخر, سواء عن عشقه ولواعج أشواقه, أو عن جوانب أخرى من حياته وأحواله الشخصية, المهم أنّ شخصيته ستتكشف وتظهر بجلاء من خلال رسائله, ومن هنا تأتي أهمّيتها كوثائق في سِيَرِ كُتّابها. غير أنّ أدب الرسائل ــ وبسبب وسائل الاتصال الحديثة ــ يوشك أن يتلاشى, أو يخلي مكانه للمحادثات المسموعة والمرئية, تمامًا كما أخلت المقامة الأدبية مكانها للقصة كما يُقال. فهل أفَلَتْ بالفعل شمس الرسائل الأدبيّة وباتت تحتضر؟ الكاتبة ليلى أحمد القحطاني تجيب عن هذا السؤال عمليًّا بالنفي, من خلال كتابها “ رسائل ناجية”, على الرغم من وجودها في زمن وسائل الاتصال الحديثة, وهذا ما أكسب كتابها أهميّته في نظري, ومن أجل ذلك شرعتُ في عرضه أو تقريظه. الكتاب صدر عن دار ريادة للنشر والتوزيع, جدة, 1446هـ, ويقع في 395 صفحة من الحجم المتوسط. جرت عادة كتّاب الرسائل ـ قديمهم وحديثهم ـ على أن ينسبوا رسائلهم لأنفسهم, وأن يوقّعوها بأسمائهم الحقيقية, ما عدا صاحبة هذا الكتاب, نراها قد اختارت لنفسها اسم ناجية, ليحل محل اسمها الحقيقي وتنسب إليه رسائلها. علمًا بأنّ مَن تقع عينه على عنوان الكتاب “ رسائل ناجية”, سيعتقد للوهلة الأولى أنّ ( ناجية) صفة للرسائل, كأنْ تكون هذه الرسائل قد نجت من حريق أو كارثةٍ ما, لكنه ما أن يشرع في مطالعة الكتاب حتى يعرف أنّ التي نجت هي الكاتبة لا الرسائل, ما جعل صفةً ناجية تغلب عليها هي, وتحل محل اسمها بجدارة, وإليها تنسب كلمة رسائل النكرة, والتي ستُصبح معرفةً بإضافتها إلى ناجية. ناهيك عن أنّ الكاتبة قد وجدت في اسم ناجية القناع الآمن الذي يمكنها أن تتوارى خلفه, أليست الرسائل ضربًا من البوح الشخصي؟ وهي قطعًا ستشقى ببوحها إذا صرّحت باسمها, لأنها في مجتمع صغير أفراده معروفين, والمرأة فيه كلها عورة, وفي كلّ زاوية منه ـ كما تقول هي ـ تجد أم قفاز أسود وأبو لحية ورديّة, يتربّصون بها في كلّ خطوة تخطوها, فكان عليها أن تتنكّرَ بقناعٍ اسمه ناجية. هي تقول: “ من هي ناجية؟ هل الاسم حقيقي؟ ربّما لا يهم, فلكل إنسان من اسمه نصيب”. ص 201 على هذا النحو نكون قد فرغنا من العنوان, ونزولًا عند رغبة الكاتبة سندع اسمها الحقيقي جانبًا, وستكون ( ناجية) هي الكاتبة, وهي المتحدّثة في هذه الرسائل التي دأبت على إرسالها تباعًا إلى صديقتها السودانية فاطمة الزهراء, دون أدني إشارة في الكتاب إلى وجود رسائل متبادلة بينهما, بوحٌ من جانبٍ واحد فقط, وكأنها حين لم تجد في مجتمعها من هو أهل لبوحها, أو تجدَ كتفًا لدمعتها, اختارت صديقتها البعيدة التي رحلت عنها منذ سنين. تقول في رسالتها الأولى: “ لم تغير السنينُ شكلي فحسب بل كل شيء بعد سفرك تغيّر, أنت هناك في ( عطبرة) في السودان وأنا هنا في ( أبها) أذوب شوقًا إليك. سأخبرك بأشياء وأحداث مرت بي, ولن أقول لك كنت أمام عواصف الأيام كجبل لا تغيّر ملامحه العواصف”. ص 13 إلى أن تقول في آخر رسالتها الأولى هذه: “ لكنك في أحلامي كنتِ صامتةً لا تردين عليّ حين أكلمك, وقد اخترتُ أن يكون بوحي في هذه الرسائل لكِ أنتِ, لأنّ مكانتك في قلبي لم تتغيّر”. ص 14 في إشارة إلى عدم وجود ردٍّ على رسائلها التي لا أتصور أنها قد أرسلتها بالفعل. الآن يبقى السؤال الأهم: ما الأخطار التي نجت منها ناجية؟ وهذا كما يبدو لي هو موضوع الكتاب, أو الرافعة التي قامت عليها جميع رسائلها. لكن قبل الإجابة ثمّة حقيقة ينبغي لنا أن نضعها في الحسبان, ومفادها أنّ ناجية هنا إنّما هي لسان قبائل من الناجيات, هي الصوت الذي اختصرت فيه أصوات بنات جيلها كافّة, وجاءت تبوح نيابة عنهن, رغم وجود بعض الخصوصيات في الجوانب المتعلقة بسيرتها الشخصية, “ نجونا من القيود ومن التآمر ومن التشكيك في سلوكنا, نجونا بعلمنا وبعمل أيدينا” ص 277. إذًا فقد نجونَ من مخاطر كانت تحيق بمجتمعنا السعودي بأسره, لولا أن كتب الله لهذا المجتمع الخلاص على يد الملك سلمان وولي عهده محمد بن سلمان, ما حصلت المرأة على حقها في العيش كما أراد لها خالقها, وليس كما أراد لها من ترمز لهم بأم قفاز أسود وصاحب اللحية الوردية. تقول: “ ما شاهدته من ضحايا الصحوة هو ما جعلني أصرخ بين جنبات هذه الرسائل”. لم تقتصر ناجية في بوحها على معاناتهن من التشدّد الصحوي, أيام كان جاثمًا على صدر المجتمع السعودي, وأهدر ثلاثة عقود من عمر أبنائه, بل أضافت معاناتهن ـ سابقًا ـ في الحصول على عمل, في ظل احتكار غير السعوديين للوظائف والأعمال هم وعائلاتهم, “ وبعد يا صديقتي.. توقفت عن كل شيء, لم أبحث عن عمل ولم ألتحق بدورة تطويرية ولم أغيّر شيئًا في حياتي, فقط كنتُ أتنفّس وآكل الطعام بدون تلذّذ”. ص 125 وبعد محاولاتٍ مضنية في البحث عن عملٍ أيّ عمل, يتم توظيفها في ( مؤسسة إنسانية) هكذا تسميها هي, ومن داخل هذه المؤسسة تكمل ناجية كتابة رسائلها التي تصبح معجونة بالدم والدموع أكثر مما مضى, تتفطّر لمآسيها القلوب, وقد أصبحت شاهدةً تقف وجهًا لوجه أمام حالات إنسانية لأطفال ونساء, بلغت قسوة الحياة عليهم حدًا يفوق احتمال البشر, والحقيقة قسوة قلوب الناس لا الحياة. “ قلت للصخرِ كن إنسانًا فقال لستُ بالقسوة الكافية!!”. هكذا كتبت طفلة من نزيلات المؤسسة على حسابها في ( الأنستغرام). ومن هنا.. تصبح جلّ رسائل ناجية التي تضمنها هذا الكتاب, بوحًا إنسانيًّا مضرّجًا بالدموع, وأنينًا بشريًّا يتصعّد أواره من داخل أسوار هذه المؤسسة, تشعر معه بقلب ناجية وهو يكاد يتفتّت, كلما شرعت في كتابة واحدة من رسائل الوجع هذه كما تسميها, حين تتحدث عن واحدة من تلك الحالات الكُثر التي مرت عليها أثناء عملها في هذه المؤسسة, والتي لا تبدأ من ذلك الطفل الذي تركه أهله في المستشفى, ولا تنتهي بالأم ( شفاء) القادمة من السجن, والسلاسل ما تزال في قدميها. لا تبدأ من ذلك الطفل الذي أشار بيده إلى منزلٍ بُنّي اللون قائلًا: أمّي تقيم هنا وستعود لتأخذني, أو من صدمة الطفلة ( نبيلة) لحظة لقائها بأمها بعد أن عاشت تحلم بهذا اللقاء. ولا تنتهي بحالة الجميلة الفائقة الجمال زهرة, الجامعية العائدة من أمريكا, وقد فقدت عقلها وتحولت إلى كائن متوحّش يشبه كومة من الفحم. لقد جمع الكتاب بين الحس الإنسانيّ الشديد الحساسية, المفعم بالعاطفة تجاه المغلوبين على أمرهم, واللغة الأدبيّة القادرة على التصوير والتأثير في القارئ, ولا غرابة في ذلك طالما كاتبة هذه الرسائل قارئة نهمة منذُ طفولتها, وِفْق ما تقوله هي عن نفسها في رسائلها, يؤكد ذلك كثرة الكتب التي ترد أسماؤها على لسانها. تقول هي في إحدى رسائلها عن القراءة “ نعم! لم أحب واقعي, هذا ما جعلني أتعلق بالكتب كنتُ أهرب إليها”. ص 26 علمًا بأنه قد صدر للكاتبة ليلى القحطاني كتاب آخر بعنوان ( من أول السطر), ويحمل عنوانًا فرعيًّا ( التداوي بالقراءة).