مُعَتَّـقًا باللهفة، ومشدودًا بالخيال الجانح، يواصل الشاعر السعودي علي مكي الشيخ اشتغالًا شعريًّا بارعًا، وسط دائرة جماليّة أخّاذة وانبثاقِ فجرٍ شعريٍّ متصاعد، مُطلِقًا لأصائِلِهُ الرّيح، ومُسْلِسًا العِنَان لإيقاعَات الشّعْرِيّة المُتَرَفَةِ بالمعنى والمُوائِمَةِ للشكل، في حالة ائتلاف ضافٍ مع المَجَاز، وتوظيف دقيق لتِقْنِيَات الكتابة الشِّعرية العابرة للمألوف. وبأدوات المُنَقِّب الضّليع، يمضي الشاعر علي مكي متوسِّعًا في مشروعه الشِّعريِّ الذي يحمل عند هذه المرحلة سِتَّ نَجْمات، تُشَكِّل ملمحًا فعليًا للحضور المؤثّر بحثًا ونتاجًا للشاعر، وتؤسس لقراءةٍ أكثر إلمامًا بالسمات المشتركة لعناوين المشروع ذاته. وخلال ما ينيف قليلًا على عقد من السنين، جاءت «مملكة التَّسْبيح» /(1430ه)، «نَقْشُ خَاتَمِه» /(1432)، «مَعِيَ رَقصةٌ تُشْبِهُك» /(1435)، «كَرَز» /(1440)، وخِتَامًا، «سأخلعُ طَعْمَ الرِّيح» /(1442)، نغَمًا ساحِرًا، وارتيادًا رائِيًا، ورَسْمَشِعْرِيًّا فارِقًا، في سلسلة التجارب الشعرية التي أنجبها المخاض الشعري لدى الشاعر علي الشيخ. إنّ الحديث عن تجربة الشاعر علي مكي في عمله الشعري الماثل أمامنا لا بدّ وأنّه يعنى ويبصر عناصر المِعْمارِ السخيّ بالعاطفة والأخيلة والصِّوَر من جهة، والمنتشي بالمعاني المبتكرة التي تعود إلى ارتباط وثيق بالشَّاعِرِيَّة، في بعديها الشِّعريّ والنثري؛ فالذوق هو حاسّة سادسة تحصل للإنسان، نتيجة تمرّسه واهتمامه بالأعمال الأدبية والفنّية، وهو مقدّمة أساسية يحتاجها مُبدِع، وتنمو تدريجيًا حسب ما يوازيها من قراءة وملاحظة وتحليل إلى أن يمتلك أدوات المبدع ويُتقِن تسخيرها في درب إنتاجه الشِّعري أو الأدبي أو الفنّي. وكون الشّعر مضمارًا كبيرًا في حياة المجتمعات، فإنّ الشاعر الذي يمسك بزمَامِ الحِسِّ الجَماليّ، نجدهُ يتلهّفُ إلى لحظاتِ التجلّي خلال كلّ تجربة شعريّةٍ عميقة في مسيرتِه الشعريّة. عند عتبة العنوان المكتوب على الغلاف الأمامي بطريقة التركيب الفني لخطّ الثلث الجليّ، تبدأ منظومة السؤال لدى المتلقّي عن معنى العنوان الرئيسي الذي تلتفّ سين بدايته حول مفصل الكتاب والغلاف الخلفي، فيما يمكن تفسيره بالكليّة المطلقة لمعنى هذا العنوان الذي يظهر كمستهلّ ينطبع على شبكية عيون المتلقّي؛” سأخلع طعم الرّيح“. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، وإنّما ينسدل جانبيًا عنوان فرعيٌّ بأسلوب شارحٍ ومكمل لعناصر العنوان الرئيس:” أن تخلع طعم الريح.. جوار لفظي لم يسبقك إليه“، والعنوان الأول يحمل معان أكثرها يميل نحو وجود الطاقة والاستعداد لدى الشاعر بالدخول في تجربة جديدة، يتكامل فيها العنصر الابتكاري مع الجمالي الذي يشترك في منح الذائقة الشعرية مساحة واسعة من اللغة التي لديها القدرة لجذب القارئ مجملًا، واستفزاز المتلقي المهتم بصورة أخصّ. أمّا العنوان الثاني، فهو تفسيري للعنوان الأول وفيه جرأة عالية وثقة كبيرة، تنبئ عن حالة تمكّن وخوض في واقع التجريب الشعريّ وعمقه، عندما تتواشج تركيباته تحقيقًا لجوار لفظيٍّ لفظيّا مائز أسلوبًا ومضمونًا. وتطالعنا أولى مشارق النّور في هذا العمل الشعريّ حين تنتشر ضياءات الإهداء، وكأنّها تحاول أن تتكامل مع عنوان الواجهة الأولى، الذي يقول: سأخلع طعم الرّيح، والسؤال الحتميّ، ماذا يأتي بعد ذلك؟ فإذا بيتان من الشِّعْر يتعاقبان كإهداء يقول: سألبسُ بعضَ فراغَ الظلام وأملأُ.. بالصَّمْتِ.. ثُقْبَ الظّلام وهو ما يبين توظيفًا زاخرًا لتقنيات المُفَارَقة، ضمن مفاهيم الانزياح؛ فهل يمكن أن يكون الفراغ ملبوسًا، إلاّ مع لغة علي مكي العابرة للأسماعِ سوى المُبدعة. ويصعد منحنى هذا التأثير المستفز حينما يملأ الصمتُ، وهو عَدَمٌ، لثقب الظلام وهو وجود، في مشهدٍ فيزيائيٍ كونيّ، تنفعل فيه الثقوب السوداء التي يجدها الشاعر أقصى تخوم المفارقة بين الحقيقي والمجاز الذي يغادره الشاعر خيالا إبداعيًّا لا مُتناهٍ. وتنثالُ الجُمَل الشعرية على أروقةِ الإجَادَة، بين خرير الجداول الوالهة، بين سهر يُزَرِّرُهُ المجاز، فيتبتّل الشّعْر على بوابّة الهَوَى: ألقاكِ أشرحُ إيقاعَ المجازَ هَوَىً أرى بعينيكِ درسَ الحُبِّ يُخْتَصَرُ بالصّمْتِ يعزِفُ رَقْصُ الظِّلِّ/ رهبتَهُ فينا كما رَقَّ في سمعِ الهوى وَتَرُ ما أنجع هذا الظّلِّ الفائض رِقَّةً على حدِّ موازينِ الشَّغَف، وبين سِيَر العُشَّاق الذين لم يصلنا عن أكثرهم حكايات الولع والشوق والضّنى الذي طوى صفحات كثيرين ممّن أتعبه السّهر، ونساهُ من تعب لأجلهم. وفي مقطوعات الشاعر علي الشيخ، طقوسٌ يُمَسْرِحُ عبرها هذا الصّوت المعبّر عن آفاق قد ينتجها هُيَام الشاعرية التي لا ينفكّ عنها في أيِّ جغرافيا أو بين أيِّ مَعْمَلٍ شعريٍّ أو حَدْسٍ ذوقيّ. إنّ العمل الشعريّ المتميز يحقق لنا لونًا من ألوان الحيوية الشعورية، وينقل المتلقّي إلى كونٍ أكثر قدرةً على تغذية مقامات الإحساس، وتعزيز مناعة الصّفاء لدى كلّ قلب وبين كل شِغافْ. إنّ هذه التجربة الشعرية التي تُصَنَّف ضمن شعر الومض أو الوميض الذي يعنى بسمات التكثيف اللفظي والغنى الدّلالي، تمثّلُ إثراءً معنويًا للأعمال الشعريّة السعودية، وترفدُ الحياة الأدبيّة بعمل قادر على مجاورة القلب والذائقة. صويبقى لمفهوم التجريب السعوديّ مضمارٌ إبداعيٌّ وفير، في الشعر والسرد والفنون، وكان للنشر الإلكتروني تأثير كبير على تسريع الانتشار، وتوفير الوسائط الإعلامية التي تتوسع فيها معطيات الإعلام الحديث.